وعلى أي حال من الحالين، فالرجل غاية في الرقة معي، ولتكن أسبابه ودوافعه ما تكون، فإنني أنا الكاسب آخر الأمر، وأنا واحد من الناس أعامل الناس بظاهر معاملتهم لي، فالحقيقة المتخفية في النفوس لا يعلمها إلا خالق النفوس، وليس لنا نحن البشر إلا ما نرى حتى يظهر ما تخفي ويبين ما تنبض به القلوب.
2
حياة جديدة عشتها مع تحية والجريدة، وانفسحت أمامي آفاق من الدنيا كانت بالنسبة لي طلاسم ومجاهل وسماعيات؛ فقد عشت حياة الدراسة أدور كالعصفور التائه في أجواء الطلبة وأوهامهم، لا أشعر أنني أجد نفسي إلا في جلساتي الهامسة في حديقة تحية، لا أعرف من دنيا القاهرة التي تكونت منذ قريب شيئا. ولعنة الله على كتب الأدب؛ فإن قراءتها جعلتني مخدورا واهما، أحسب أنني عرفت الحياة من خلالها. فحين انفتحت أمامي هذه الآفاق الجديدة، تبين لي أن حياة الكتب هذه حياة مرسومة، يصنعها الكتاب بالصورة التي تحلو لهم، وليس بالصور التي ترسمها الحياة لنفسها. إنها عربيدة جامحة رعناء، هذه الحياة ترسم خطوطها وخطوط ناسها كما تشاء. والعجيب في أمرها أنها لا تلقي أية عناية لأصول فن القصة التي أفنيت شبابي في الوصول إليها من ثنايا قراءتي للقصة وقراءتي عن القصة. أما هذه الدنيا فبوهيمية، لا تراعي أية أصول، وأول أصول تسحقها وتحتقرها هي أصول القصة. فإذا أنت أوغلت في الحياة وأردت أن تنتمي إلى دفاعها وأبنائها وغايتها وسبلها، ألفيت دنياك ترمي بالأحداث في وجهك دون تلك المقدمات التي يلزمك فن الرواية بمراعاتها، وتنظر إلى هذه الأحداث أو التشابكات التي تكون عقد القصص في الحياة فتجد أحداثا وتشابكات خالية من أي منطق أو معقولية أو تفكير. وأنظر إلى نفسي فإذا أنا تائه ذاهل بما يحمله عقلي الهش من أحداث القصص الروائية، وإذا أنا فجأة أكتشف أنني قضيت ربع قرن مع الحياة وأنا غريب عن الحياة، لا أعرفها ولا هي تعرف أمثالي. ولا يبقى من هذه القصص والروايات التي كنت أقرأها إلا ذكريات الاستمتاع بقراءتها ثم لا شيء بعد ذلك.
ولقد هدني وزلزل كياني أن غروري راح ينسحق شيئا فشيئا، لأجد نفسي آخر الأمر هباءة هائمة في دنيا غريبة، تنكرني ولا أنكرها، توشك أن تنبذني وأتمسك بها، وتتجهم لي تجهم من يجهلني، وأحاول أن أبتسم لها ابتسامة من يتظاهر بمعرفتها.
وجدت نفسي فجأة أو من غير فجأة عضوا بنادي الجزيرة. وهذه العضوية لمثلي حدث هام في حياتي، أحب أن أمارسه بأسرع ما تكون الممارسة وبأوسع ما تكون الممارسة. بحثت عن حقوق العضو، فوجدت أنني لن أتمتع منها بشيء؛ فلعب الألعاب بعيد عن طموحي، ودعوة الناس بعيدة عن مواردي المالية، والداخل للنادي لا يحتاج إلى عضوية، فأنا لن أذهب وحدي، وزوجتي عضوة بحكم أنها ابنة أبيها الذي ما كان لأبهته أن تكتمل إن لم يكن عضوا بجميع نوادي مصر الكبرى، وهكذا لم تضف العضوية جديدا إلي إلا أنها مع ذلك جعلتني أشعر أنني شيء مهم، ولو لم تهب لي إلا هذا الشعور لكان حسبها وحسبي.
ذهبت في أول يوم إلى النادي مع زوجتي وعمي نصر بك وزوجته هنية هانم، فوجدتهم يتجهون إلى منضدة بعينها، فما أن انتهى مسيرهم إليها حتى توقفوا وراحوا يتبادلون نوعا من السلام يدل على أنهم يلتقون دائما، واتسعت الدائرة لتشملنا، وراحت العيون تتجه إلي خفية أحيانا وفي صراحة وجرأة أحيانا أخرى. ورحت أنظر في القوم أنهم قادة الاشتراكية في مصر، رؤساء مجالس إدارات وأمناء اتحاد اشتراكي. وجرى الحديث، وبدأ بي بطبيعة الحال بصفتي عضوا جديدا في المنضدة لا في النادي فقط. عجيب شأن هؤلاء الناس، كيف استطاعوا أن يخلقوا بينهم هذه اللغة المشتركة. نفس الطريقة التي يتكلم بها عمي نصر، ونفس المقاييس، ونفس العبارات. وفجأة ارتفع صوت سيدة من زوجاتهم أو من بناتهم، لا أدري فالأمر مختلط: تصوري جيجي فتحت بوتيك في الزمالك.
وقالت الأخرى وكأنها لم تكن تعرف: لا يا شيخة.
وضحك تيسير بك عبد المولى رئيس مجلس إدارة الشركة العربية للغزل ورئيس الاتحاد الاشتراكي بها: مغفلة.
ونظرت إليه السيدات وقالت إحداهن: لماذا يا تيسير بك؟ - لن يشتري منها أحد. - لماذا؟ - الزمالك أصبح لا يسكنها إلا الفقراء الذين كانوا أغنياء، والروس الذين يصدرون الفقر إلى جميع بلدان العالم.
وضحكت السيدات، وغصت في الكرسي الذي أجلس إليه، أهؤلاء هم زعماء الاشتراكية في بلدي؟!
Halaman tidak diketahui