Akar Falsafah Strukturalisme
الجذور الفلسفية للبنائية
Genre-genre
أي إن نجاح اللغويات - وهي قبل كل شيء علم إنساني - في بلوغ مرتبة العلم المنضبط كان عاملا مشجعا للباحثين في الميادين الأخرى للدراسات الإنسانية والاجتماعية على الاقتداء بهذا العلم الناجح في منهجه، وفي الهدف الذي يرمي إلى تحقيقه. ولقد عبر ليفي ستروس عن هذه العلاقة بين اللغويات وسائر العلوم الإنسانية تعبيرا صريحا واضحا: «إننا (يقصد علماء الأنثروبولوجيا) نجد أنفسنا، إزاء علماء اللغة، في وضع حرج؛ فطوال سنوات متعددة كنا نشتغل معهم جنبا إلى جنب، وفجأة يبدو لنا أن اللغويين لم يعودوا معنا، وإنما انتقلوا إلى الجانب الآخر من ذلك الحاجز الذي يفصل العلوم الطبيعية الدقيقة عن العلوم الإنسانية والاجتماعية، والذي ظل الناس يعتقدون طويلا باستحالة عبوره. وهكذا أخذ اللغويون ... يشتغلون بتلك الطريقة المنضبطة التي تعودنا أن نعترف باستسلام أنها وقف على العلوم الطبيعية وحدها، مما ولد في نفوسنا قدرا من الأسى، وكثيرا من الحسد، إذا أردنا أن نكون صرحاء. فنحن نود أن نتعلم من اللغويين سر نجاحهم. فهلا يمكننا أن نطبق بدورنا على المجال المعقد لدراساتنا - كمجال القرابة، والتنظيم الاجتماعي، والدين والفلكلور، والأدب؛ تلك المناهج المنضبطة التي يتحقق عالم اللغة في كل يوم من فعاليتها؟»
5
ويهمنا في هذا النص - الذي يذكرنا إلى حد بعيد بما قاله كانت في معرض المقارنة بين الفلسفة والعلوم الرياضية والطبيعية في مقدمة كتاب «نقد العقل الخالص» - أن البنائيين الذين كان ليفي ستروس رائدهم بغير نزاع، ليسوا من أولئك الذين يبحثون للعلوم الاجتماعية والإنسانية عن منهج خاص بها، مرتبط بطبيعة الظاهرة التي تتناولها هذه العلوم، وهي الإنسان. وإنما هم يؤمنون بأن «العلم» - سواء أكان طبيعيا أم إنسانيا - له منهج واحد، وأن ما يصلح لإحدى الفئتين يصلح بعد تعديلات بسيطة للفئة الأخرى، وأن العلوم التي تبحث في الإنسان تستطيع أن تمسك بطوق النجاة الذي ينقذها من عواصف التخبط والتناقض واللامعقولية إذا طبقت نفس المنهج الذي جرب بنجاح في العلوم الدقيقة، وأن لديها في علم اللغة نموذجا رائعا لعلم إنساني تمكن من اللحاق بركب العلوم المنضبطة. تلك هي وجهة النظر التي ينطلق منها البنائيون، وهي تعبر عن فلسفة خاصة بهم، يمكن أن توجد فلسفة أخرى بديلة لها، هل تلك التي ترفض هدف الدقة والانضباط للعلوم الإنسانية أصلا، وتؤكد أن هذه العلوم تقدر على أمور ولا تقدر على أمور أخرى، وأن لها سماتها الخاصة التي لا تجعل من محاكاتها لمناهج العلوم الدقيقة أمرا مرغوبا فيه. وبعبارة أخرى، فإن البنائية قد اختارت لنفسها طريقا معينا تسير فيه نحو هدف الدقة العلمية عند دراستها للإنسان، وهي تستعين أساسا بالنموذج اللغوي من أجل تحقيق هذا الهدف. وقد لا نجد لدى بعض من يتبعون المنهج البنائي اهتماما كبيرا بالنموذج اللغوي، كما هي الحال عند بياجيه، الذي بنى أبحاثه على نماذج منطقية، ولكن الاتجاه الغالب لديهم هو أن يتخذوا من تلك البناءات الشكلية للتركيب اللغوي في عمومه، بغض النظر عن تركيب أية لغة بعينها وبغض النظر عن كل الدلالات اللغوية الخاصة، نموذجا يمكن أن يقتدي به الباحثون في مختلف مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية.
ونستطيع أن نختم هذه المقدمة التاريخية بالقول إن البنائية في أساسها نظرية في العلم (
epistémologie ) تؤكد أهمية النموذج أو البناء في كل معرفة علمية، وتجعل للعلاقات الداخلية والنسق الباطن قيمة كبرى في اكتساب أي علم. ولكن الحماسة الفياضة التي أثارتها هذه النظرية في فترة تاريخية معينة، هي فترة الستينيات المتأخرة، وربما أوائل السبعينيات أدت بالبعض إلى أن يعاملوها كما لو كانت انقلابا فلسفيا شاملا، وثورة فكرية جديدة تجعل من الذات مجرد حامل للبناءات، ومن التاريخ مجرد تعاقب لصور تظل في أساسها ثابتة، وإن اختلفت مظاهرها التاريخية. على أن هذا التوسع في فهم البنائية قد أدى في تلك الفترة بالذات، إلى بعض التشويه في صورتها، وإلى إقحام عناصر دخيلة عليها، عندما أصبحت هي «الموضة» الشائعة، وعوملت على أنها أيديولوجية جديدة كاملة، وطبقت على ميادين قد لا يكون المنهج البنائي صالحا لها أصلا. وهذا تطرف نجده في كل مذهب يبهر الناس بجدته وخروجه عن المألوف، ولكنه لا يصح أن يتخذ أساسا للحكم على هذه الحركة الفكرية المثمرة.
ما هي البنائية؟
حينما أراد «بياجيه» أن يقدم تعريفا للبنائية في مستهل كتابه الذي خصصه لعرض هذا الاتجاه الفكري في جوانبه المختلفة، كان من رأيه أن من الضروري التفرقة بين الاتجاهات النقدية التي يسير فيها كل شكل خاص من أشكال البنائية، يطبق على ميدان محدد من ميادين معرفة الإنسان، وبين المثل الأعلى الذي تستهدفه فكرة البنائية مهما تعددت أشكالها؛ أي إنه كان يفرق بين التعريف السلبي للبنائية، من خلال بحث «ما تنقده»، والتعريف الإيجابي الذي يحدد «ما تهدف إليه». وكان يعتقد أن الأخذ بالأسلوب الأول يمكن أن يوقعنا في التعدد والتشتت؛ لأن البنائية لها أضداد يختلفون تبعا للميدان الذي تبحثه. فما تعارضه البنائية في ميدان الرياضيات مختلف عما تعارضه في ميدان علم النفس أو الأنثروبولوجيا أو اللغويات. ومن ثم فإن الأفضل، في رأيه، ألا نعرف البنائية من خلال اتجاهاتها النقدية، بل ينبغي أن نبحث عن المثل الأعلى المشترك بين جميع ضروب البنائية. وهذا المثل الأعلى في رأيه، هو السعي إلى تحقيق معقولية كامنة عن طريق تكوين بناءات مكتفية بنفسها، لا نحتاج من أجل بلوغها إلى الرجوع إلى أية عناصر خارجية، ومحاولة الوصول إلى السمات التي تشترك فيها كل البناءات التي نتوصل إليها بوجه عام.
1
هذا المثل الأعلى المشترك موجود بالفعل في كل أشكال البنائية، ولكنه في رأينا لا يوصل إلى الكثير. وربما كان الطريق الآخر، أعني التعريف بالسلب، أمرا لا مفر منه من أجل تكوين فهم مبدئي سليم للبنائية؛ ذلك لأن هذا الاتجاه لم يظهر في فراغ، لكي يدعو إلى مثل أعلى في المعقولية يكون فيه كل نسق يكونه العلم مكتفيا بذاته، وقادرا على تنظيم ذاته دون إقحام عناصر خارجية، بل إنه كان في الأصل دعوة إلى التخلي عن أساليب مضادة في البحث العلمي، وكان يرتكز على فلسفة خاصة لا يمكن فهمها إلا في ضوء النقد الذي وجهته إلى الفلسفات المضادة لها. ولقد كان البنائيون، منذ البداية، يخوضون معارك حامية ضد خصوم أقوياء لهم مواقع ثابتة في أرض الفلسفة والتفكير العلمي، ومن هنا كان مما يفيد في تقديم إيضاح أولي للبنائية أن نحددها من خلال المعارك التي خاضتها، ومن خلال الأفكار المضادة التي سعت إلى محاربتها. ومما يؤيد صحة هذا الاتجاه أن بياجيه نفسه، حين قدم تعريفا أوليا للبنائية، مرتكزا على مثلها الأعلى «الإيجابي»، اضطر عند شرحه لعناصر هذا التعريف إلى إيضاحها من خلال أضدادها، أي إنه عاد مرة أخرى إلى تعريف البنائية من خلال «ما تعارضه»، لا من خلال «ما تسعى إليه».
على أية حال؛ فإننا لا نستطيع أن نغفل التحديد الإيجابي لمعنى البنائية. وكل ما في الأمر أن هذا التحديد ينبغي أن يستخلص، في رأينا، في مرحلة تالية. فالطريقة المثلى في إيضاح معنى البنائية هي أن نبدأ بتحديد هذا المعنى من خلال الاتجاهات التي ظهرت البنائية لكي تنقذها. أما الأهداف الإيجابية للبنائية؛ فسوف تعرض بالتفصيل عندما نتحدث عن الأسس الفلسفية لهذا المذهب في الميادين المختلفة لمعرفة الإنسان، وسيكون من السهل عندئذ استخلاص العناصر المشتركة بين أشكال البنائية في كل هذه الميادين: (1) البنائية والنزعة التجريبية
Halaman tidak diketahui