Judad Wa Qudama
جدد وقدماء: دراسات ونقد ومناقشات
Genre-genre
كيف أجسر على الإفضاء إليك بهذا وكيف أفرط فيه! لا أدري، الحمد لله أني أكتبه على الورق ولا أتلفظ به؛ لأنك لو كنت الآن حاضرا بالجسد لهربت خجلا بعد هذا الكلام، ولاختفيت زمنا طويلا، فما أدعك تراني إلا بعد أن تنسى، حتى الكتابة ألوم نفسي عليها أحيانا؛ لأني بها حرة كل هذه الحرية، أتذكر قول القدماء من الشرقيين: إنه خير للبنت أن لا تقرأ ولا تكتب؟ ها قد صح علي ارتيابهم وصدق في سوء ظنهم، لا تقل إن القديس توما يظهر هنا، وليس ما أبدي هنا أثر الوراثة فحسب، بل هي شيء أبعد من الوراثة، ما هو؟
قل لي أنت ما هو هذا؟ وقل لي ما إذا كنت على ضلال أو على هدى، فإني أثق بك وأصدق بالبداهة كل ما تقول، وسواء أكنت مخطئة أم غير مخطئة، فإن قلبي يسير إليك وخير ما في يظل جاثما حواليك يحرسك ويحنو عليك.
غابت الشمس وراء الأفق، ومن خلال السحب العجيبة الأشكال والألوان حصحصت نجمة لامعة، نجمة واحدة هي الزهرة، إلاهة الحب، أترى يسكنها كأرضنا بشر يحبون ويشوقون؟ ربما وجد فيها من هي مثلي، لها واحد جبران، حلو بعيد بعيد، هو القريب القريب، تكتب إليه الآن والشفق يملأ الفضاء، وتعلم أن الظلام يخلف الشفق، وأن النور يتبع الظلام، وأن الليل سيخلف النهار، والنهار سيتبع الليل مرات كثيرة، قبل أن ترى الذي تحبه، فتتسرب إليها كل وحشة الشفق وكل وحشة الليل، فتلقي بالقلم جانبا لتحتمي من الوحشة في اسم واحد: جبران!
ماري
لم أتناول بحث حب مي لجبران إشفاقا من أن تصير مي نبية مثل صفورة، وجبران كموسى أو أحد الأنبياء، ولكنها نواة درس نبدأ به على أن يتمه غيرنا إن لم نتمه نحن.
عد بنا إلى الوراء، إلى أول كتاب مي ففيه كلمة جبران النونو، إن الطفل يا صديقي يشغل حيزا كبيرا من دماغ مي، وجبرانها النونو يذكرني بأحلام الصبا، فكم عرس كاذب أقمناه، وكم بنية رأيناها تحتضن دميتها وتحنو عليها حنو المرضعات على الفطيم، اقرأ لمي في «ظلمات وأشعة» «أنا والطفل» تعرف حب مي للأطفال، طالع أولا قراءتها ما خطته يد الأقدار في كف روبرت من خطوط الحياة والعقل والقلب، وكيف رأت تل المريخ يرتفع في تلك الكف الصغيرة متهددا متوعدا (ص7).
إن مي انقلبت مع روبرت - اسم هذاك الطفل - «بصارة براجة»، وهذا ما يثبت ما يؤكده علم النفس من أن صاحب الميل والهوى يتعلق بحبال الهوا ويصدق السفاسف، وإذا بلغت «ص34» وقعت على مقالة «بكاء الطفل» فتقرأ فيها: «فدنوت منه متوسلة وضممته إلي بذراعي التي لم تضم يوما أخا أو أختا صغيرة، وأجلسته على ركبتي حيث لا يجلس سوى أطفال الغرباء.» «صمت الطفل حائرا؛ لأنه شعر بأن روحا تناجي روحه، صمت هنيهة ثم حدق في سائلا عن أعز عزيز لديه، وقال بصوت هادئ كأصوات الحكماء: ماما، ماما.» «صغيرك يناديك فلماذا لا تجيبين، يا أم الصغير! لست بالعليلة؛ لأني رأيتك منذ حين تميسين بقدك تحت برنيطتك، والجواهر تطوق العنق منك، أنت صحيحة الجسم فلماذا لا تسرعين؟» «عودي من نزهاتك الطويلة، وزياراتك العديدة، وأحاديثك السخيفة، عودي واركعي أمام الصغير واستميحه عفوا، لقد خلقت امرأة قبل أن تكوني حسناء، وكيفتك الطبيعة أما قبل أن يجعلك الاجتماع زائرة.» «تعالي اسجدي أمام السرير، سرير الصغير، اسجدي أمام هذا المهد الذي لعبت بين ستائره طفلة، وحلمت به فتاة، وانتظرته زوجة، فما خجلت أن تهمليه أما.»
هذه هي أحلام مي، هذا هو الشوق الكمين في سجاياها، والحنين الدفين في لا شعورها، هذه أحلام الفتاة الكامنة في كتلتها كمون الحياة في البرعم تحت برد كانون، وعواصف شباط وصواعق آذار، تنتظر نيسان لتبرز، ولكن نيسان مزق سجوف أحلام مي ومات جبران فيه، ولاح لها غدها الأشمط.
إن أدب مي نوعان: أدب منبري، وأدب شعري، وفي أدبيها كليهما تسود عاطفة الشفقة والحنان والرحمة، وهذه كلها وليدة الألم، فمي تألمت جدا وأنكى آلامها الحرمان، حرمت الزوج والأمومة وهي ترى أن المرأة ما خلقت إلا لتكون أما.
يلوح من مكتوب مي أنها البادئة في إعلان حبها، وأن جبران كان كعادته يطوف حول الموضوع ولا يلجه، إن بين سطور «مكتوبها» مشاهد وآلاما وشجونا فيه حب مي وأطواره كلها، وفيه ارتياع من مستقبل هذا الحب، وفيه شروط وبنود لا يوضحها لنا إلا المفقود من رسائلهما، فرسائل مي لجبران ورسائل جبران لمي - الموجودة مسودتها - لم تسعفني على البت في حل عقدة مصير هذا الحب.
Halaman tidak diketahui