Judad Wa Qudama
جدد وقدماء: دراسات ونقد ومناقشات
Genre-genre
ولكن ما نعاه فيلسوف المؤرخين على أبي الطيب أصبح اليوم دعامة خلوده، فكأن هذا الشاعر الأعظم قد نظم شعره لهذا الجيل الكفاحي، ففيه مرعى لكل نفس غير بلهاء كأشياخ ابن خلدون الذين يجاريهم طه حسين، فقد سمعته يختتم كلمته في حفلة الجامعة المصرية للمتنبي بقوله: إن فن المتنبي لا يعجبه، وهذا ما توقعته من طه بك فلا بد للدكتور من مخالفة ليقال: قال، وطه كما أراه يعتق شيئا فشيئا، ولا يبعد أن تستهويه الماوية والسجنجل، فهو يمشي الوراب كالسرطان ولا نعلم أي وكر يملأ.
مسكين أدبنا المريض بسل الأسلوب وسرطان القالب، إنه لا يؤمن إلا بتعازيم الكهان ورقى الحواة ولا يعرف من الطب إلا الكي، وهو خير دواء لكثيرين من هواته، يخدعك طلاء هذا الأدب حتى إذا رزته عرفت أنه دنانير ولكنها من «شوكلاته»!
سقنا هذه الكلمة لحديثنا عن المنفلوطي، والمنفلوطي جدول يخرخر ونهر ثرثار تقطعه غير خالع نعليك ولا تشمر بكرم فضاح كالتي حدثنا عنها الريحاني في ملوك العرب، المنفلوطي من مناجذ الأدب الذين لا يهنأ لهم عيش إلا في قرض الجذور، ونحن إلى من يغرس جديدا أحوج منا إلى من يقرض، فالقارضون عندنا لا يحصون، وقلما ينامون قبل أن يكسبوا بيتا .
لا أدري لماذا صرت أرى المنفلوطي رخوا مترهلا كالمرأة الهركولة التي تعتمد على يديها ورجليها لتنهض، وتكاد تقعد لولا التشدد كهريرة الأعشى، فأدب المنفلوطي أدب مفلطح منتفش اغترت الصحف بخرزاته وودعاته، فلقبته «أمير البيان» فتطوح في حقول الأقدمين كلاقطي السنابل «العفارين» وتاه في الجادات كجامعي لفافات التبغ، ولن أعدل عن رأيي هذا فيه حتى تستبدل مقاييس الأدب وعباراته بغيرها فيصير الرطل كيلو والذراع مترا.
ما خدع المنفلوطي عن نفسه حتى جاء بهذه المفرقعات، إلا كذب بعضنا على بعض، وإننا ما فتئنا نفعل هكذا بالأحياء الذين يبعطون في جهلهم ولا يتأدبون حاسبين النبوغ في اجترار التعابير كالعنزة القائلة.
لقد فتشت آثار المنفلوطي كلها فما عثرت بتعبير شخصي لهذا النابغة، فهل بين الناطقين بالضاد من يدلني على واحد، ثم لا يثنيه هذا الضعف أن يجترئ على المعري ويلخص رسالة الغفران بأسلوب منفلوطي، فتنكرت لنا كالذين يتلبسون بقبع المرفع والبربارة، ولو لم يقل المنفلوطي إنها رسالة الغفران لجهلناها، فقد استحال فيها أدب المعري معرة، واستناب المنفلوطي نفسه عن علي بن منصور.
رحم الله «ع. م» أحد رسامينا القدماء، فقد خبرونا أنه كان يصور الغزال ويكتب اسمه تحته ليعرف الناظر أنه يرى صورة غزال لا صورة ضبع، إن «ع. م» في الرسامين كالمنفلوطي في المنشئين، ولم تعدم البلاد ممن يعدون «ع. م» مصورا بارعا، وكأني بمنفلوطينا قد استضعف خيال المعري فبدأ رسالة الغفران - غفر الله له - حيث أراد، وأخذ يروح فيها ويجيء كسيارة يدورها سائق عكش في كوع ضيق.
قد بدأها كما شاء هو فرأى نفسه في صحراء مد البصر، وما أكثر ما يرى المنفلوطي نفسه في الصحارى؛ حيث لا حارس ولا ناطور، بل ما أكثر أحلام هذا الرجل وأقرب إعفاءاته، وما أطول نومه فكأنه اليربوع أو الغرير، عفوا أين الغرير منه وقد نام ألف سنة في رسالة الغفران، تحرش المنفلوطي بالمعري، ثم بجبران في قصة «صراخ القبور» فكان كولد يخربش على الحيطان قبالة فنانين حاذقين، وجاء عمله في رسالة الغفران كعمل صيقل أبله يذهب بجوهر السيف ليجعله لماعا أبيض، وإن شئت فقل ليعيده حديدة، أو كحراث عثر وهو ينقب أرضه على قطعة أثرية فجلاها بسحوق كسر الجرار ليزيل زنجارها، فخمشها وعراها من هيبة الدهور وجلال الأجيال، وهكذا فات البصير - أمير البيان - ما أدركه الأعمى الذي لم يعجب شعره ابن خلدون وأشياخه.
لقد مسخ المنفلوطي رسالة الغفران مسخا لا يغتفر لصبية الكتاب، فكان كالقصاص، بل من أين للمنفلوطي براعة ذاك، فالقصاص لا يهمل الخطوط التي تريك ملامح أبطاله، أما المنفلوطي ففاته هذا، اقرأ تر كيف غاب عنه ما فيها من جمال فبدل التعابير الأثرية بكلام مزيف مصقول، ولم يعجبه، يا سبحان الله، من كلام المعري إلا «فبعلت بالأمر» التي لا تدل إلا على ذوق المنفلوطي، فأبقاها.
هل من معترض إذا سمينا المنفلوطي محيي الموءودات، فقد أحيا لنا الكثيرات منهن مثل: فثأته عنه، والفينة بعد الفينة، وعين ثرة، ثجاجة، وقليب أي بئر ... عدا عن الصحراء التي حل فيها محل ابن القارح، ثم خلق أيضا في الجنة دهليزا - كالذي كان يأكل فيه المعري - وهذا شيء غريب عجيب لا يلهمني إلا أن المنفلوطي كان يسكن بيتا ذا دهليز، فالمعري الذي عاش في دهليز أبدي ما خطر بباله قط أن يجعل في جنة الله حتى ولا في الجحيم دهليزا كهذا الذي خلقه المنفلوطي.
Halaman tidak diketahui