Judad Wa Qudama
جدد وقدماء: دراسات ونقد ومناقشات
Genre-genre
هذا هو المونسينيور فغالي في مار ساسين فغال، وافترقنا سنة ثم اجتمعنا في مدرسة مار يوحنا مارون الإكليريكية، وهناك في الغابة التي تلف دير كفر حي التاريخي، جددت مع صديقي نخلة يوسف ذكرى سنديانات مدرسة مار ساسين فغال، كنت كبرت قليلا وأصبحت أقدر على إدراك معاني الحياة فصارت عشرتي ألذ، كانت لنا حركات تستفز الأساتذة وتضحك التلامذة ، فكان المرحوم نخلة يفوز من حركاتي بالغنم وأفوز أنا بالغرم.
لم أكن أبالي بما عند جبابرة الأساتذة من بطش في سبيل توطيد عرشهم، خاطروني مرة في مدرسة مار ساسين على التدخين في قاعة الدرس فدخنت، وكان الجالس سعيدا على عرش «المناظرة» حنا الخور حاقل - الخوري ميخائيل الخوري، كاهن رعية مار مارون، في بيروت سابقا - فأنزلوا بي عقابا شديدا، أطعمت الخبز اليابس راكعا في المائدة مدة أسبوعين فقط، ومع ذلك لم أثب فتركت في مار يوحنا مارون قصصا خالدة.
وأخيرا صح الصحيح ولبى صديقي نخلة دعوة نعمة روح القدس التي لم تحل علي، فبعثوه إلى فرنسا حيث أتم دروسه الإكليريكية، وهكذا حدت عن ذلك الدرب وافترقنا، ثم اجتمعت به بعد الكهنوت أكثر من مرة، وتبادلنا «النظريات» في حياتنا، وكان آخر اجتماع في مكتبي بعاليه، جلسنا ساعات نتذاكر الماضي ونستعرض شريط حياتنا الماضية، فعشنا بها هنيهة.
كان صديقي غير مغرور، فرأيته بحلاه الذهبية من سلسلة وصليب وخاتم وأزرار حمراء، أكثر منه تواضعا في صديرية الديما، وشروال المقصور، لم يتغير فيه شيء غير علمه العميق وثقافته الواسعة، قد زودت طلابا كثيرين أموا فرنسا ببطاقات توصية فكان يحسن استقبالهم في باريس، ويمد لهم يد المعونة غير مدخر شيئا من وسعه، فيمهد العقبات التي تقف في وجوههم، كان يقابل كل لبناني وسوري، على اختلاف الملل والنحل، ببشاشة وعناية، فكان كما قال مار بولس: صرت للكل حتى أربح الكل.
لندع الآن نخلة يوسف ولنقل كلمتنا في المونسينيور فغالي، كان هذا الكاهن الفاضل نموذج البساطة اللبنانية في حركاته وسكناته وفي أساليب حياته، لم ينصل لونه اللبناني في الغرب، فرغما عن تزييه بالسمت الأوروبي كنت ترى سيماء كهنة لبنان في القرن التاسع عشر بادية على وجهه النقي، وهو أحد الذين شرفوا لبنان في الغرب ، وبنوا مدماكا بارزا في صرحنا العلمي العالمي، فالمونسينيور فغالي ظل لبنانيا حتى في لهجته وحديثه، رأى منه الغرب لونا لبنانيا لم يعرفه من قبل، عرفهم بلغتنا اللبنانية العامية الفصيحة، المنفوخة فيها الروح اللبنانية، وحسبك كتابه المعنون لهجة كفر عبيدا.
كان رحمه الله عالما بالآداب المشرقية والمغربية، عارفا لها كل المعرفة، علم لغة العرب وآدابها في كلية الآداب ببوردو، وفي مدرسة باريز الوطنية للغات الشرقية الحية، فأحيا ذكر نوابغنا الذين كانوا أساتذة لغة الضاد ينشرونها في أربعة أقطار المسكونة.
قد أريتك في مطلع كلمتي أنه قال الشعر عربيا، لتعلم أنه رجل خدم وطنه ولغته، فإذا ذكر القروم منا كان كالسمعاني والتولاوي والحاقلاني وغانم وغيرهم، حق لنا أن نضيف الخوري ميخائيل إلى ذلك الفهرست الطويل، وإلى عمله في حقل العلم يمكننا أن نضيف عمله الخصيب في القضية اللبنانية، فقد عهد إليه بأمور جسام فحل معضلاتها.
قلت له في عاليه: أعرفك يا خوري ميخائيل رجل علم وأخلاق وفضيلة، فأريتنا أنك تصلح أيضا للسياسة، فأجاب بالتفاتة إلى فوق، وكثيرا ما كان يعبر بهذه الالتفاتة البليغة، ويستغني عن الكلام الفارغ.
لست أعدد ما كتبه المونسينيور فغالي من تآليف فهذا لا يعنيني الآن، فالذي يهمني أن أتحدث عنه هو ما قلته، وإني أختمه بقولي: كان صديقي رحمه الله، على علمه الواسع، كما قال الإنجيل عن يوحنا: قصبة مرضوضة، لا يصيح ولا يماحك ولا يطفي سراجا مشعلا. (5) فؤاد سليمان الأديب والشاعر
فؤاد سليمان في نظري وحدة شعرية لا تتجزأ، هو شاعر في كل ما خطه قلمه من منظور ومنثور، قد يكون شعره كشعر غيره، أما نثره فذو طابع خاص، وكتابه «درب القمر» ديوان شعر له مقوماته وخواصه التي لا تجدها عند غيره، وربما كان هذا الكتاب على صغره، خير ما أنتجه شبابنا في الفترة التي عاش فيها فؤاد سليمان، كأني بهذا الأديب الشاعر نظام مستقل في كون الأدب، له شمسه وكواكبه ونجومه، وكل في فلك يسبحون، فحيثما تصادفه تنبئك عنه خصلتان: عاطفة من نار آكلة، وكلمة من حديد محمى.
Halaman tidak diketahui