أمي، لا أزال ولدك حتى عند موتك! أتقدر السماء أن تملأ فراغ نفس الأم في السعادة الخالدة، حيث الفضيلة تناديك إليها؟ لا! إن قلبك ليطلب ولدك أو العدم! آه! إني أؤمن بالعدم أكثر من إيماني بغيابك! أشعر بجبيني يضطرب كاضطرابه عند قبلتك، يقولون: إن الوجود الحقيقي هو بين ذراعي الخالق، فالخالق وطن الأحباء والبائسين!
العهد الثامن
باريس في 16 أيلول سنة 1800
أرجعت شقيقتي إلى ذراعي زوجها، لقد كانت العودة أليمة وعذبة! أليمة بما تحمله من الحزن والأسى، وعذبة لمرأى البنين الأطفال بعد غيبة طويلة! فثوب شقيقتي الأسود كان يحجب أفراحا تتغلغل في صدرها لدى كل وثبة من وثبات أولادها الصغار، فالأسف والحسرات التي قاستها بعد موت والدتي اضمحلت جميعها عند رؤية أطفالها! فكم من عاطفة تتراءى لدى كل طرفة من عينها، وكم من حب يتجسم في كل حركة من حركاتها! إن الحياة مزدوجة في قلوب الأمهات؛ فعندما يتوارى الماضي ويضطرب المغيب ترى الأم ذلك المستقبل يشرق من جبين أولادها بكل ما في النور من الأمل وينعكس على مغيبها كما تنعكس نجمة الصباح على مرآة الليل الراحل!
باريس في 12 أيلول سنة 1800
قبل أن أعود إلى منفاي الأبدي، أرادوا أن أبقى بينهم بعض أيام إلى أن تكون شقيقتي المسكينة قد ألفت الفراق، فتوهمت أني أتمكن من سمع ضجيج العالم في تلك المدة كما يسمعون الأمواج تتلاطم على الصخور من على كثيب قائم على مقربة من الشاطئ.
إن ضجيج الإنسانية ليزعج نفسي في هذه المدينة الهائلة! فعواصف النفوس تضطرم في باريس وتغلي غليان القدور! أسمع أصوات الشعب تزأر من بعيد كأنما هي محيط عظيم تتصاعد أمواجه وتصطخب اصطخابا يقرب إلى الشهيق المحزن العميق! يخيل لي أن لظى الشهوات يطلع من جهنم على ملايين الأرواح في هذا المحيط العجاج! وأن أسراب النساء والرجال تتلاطم أفواجا أفواجا مصعدة ضجيجها المخيف إلى أجواز الفضاء! أو أن صراخا رائعا يتفجر من ضمير الأرض بعد أن تكون الحمى قد تغلغلت في شرايينها ودبت في صدعها المريض! يا له من ثقل عظيم يضغط بشدة على النفوس عند مرأى الإنسانية سابحة في هذه البحيرة الفاسدة! يا لها عاصفة من عواصف العدم! يا له بحرا من بحور الألم! يخيل لي أن هذا الشعب يود أن يغرقني في لجة عميقة من لجج الفحش! وأن عين الله لم تعد تتبينني بين هذه الجماعات! وأني أشعر بجوع وعطش لم يشعر بمثلهما هذا الجم الغفير! وأن ثوبي يلتقط بأطرافه قذارة الجرائم والآثام! ويخال لي أيضا أني لست سوى نقطة ماء في هذا المحيط الخضم لا تؤثر في شيء من ارتفاعه وانخفاضه، أو ذرة من زبده، أو عشبة نابتة على ضفافه يلطخها بقذراته ثم يسحقها بأمواجه، وأني إذا سقطت تحت قدمي هذا الشعب لا ينتبه أحد إلى صراخي بل تمر المواكب المفترسة على جسدي بدون أن تكترث ولو بفكرة للذي يختبط تحت قدميها! ...
ثم إن خوفا عظيما يملك قواي في باريس! فنفسي تحدثني أن لورانس تستنشق هذا الهواء في هذا المحيط، وأنها تسمع هذا الضجيج، وترى هذه السماء، وتشرب من هذه المياه التي أشرب منها أنا! أجل! إن تلك اللؤلؤة النقية لتغوص في هذا الأوقيانوس وتهيم في هذه الصحراء الدنسة!
عندما أرفع نظري إلى مصابيح الشارع وأرى خيالا يضطرب في إحدى النوافذ أقول في نفسي: «ألا يمكن أن يكون خيالها هذا الخيال؟» ثم إني أرتعش لدن كل صوت أسمعه فأحاول ألا أرفع نظري إلى النساء مخافة أن ألتقي بوجه أتجنب رؤيته!
إيه! ليالي الجبل، ليالي السكون والصفاء! إيه قمر السماء المائس على قمم الأدواح الشاحبة، تلك الأدواح المنحنية أمام أنفاس البحيرات الفضية! إيه أشعة الفضاء البيضاء الذائبة على أعشاب المروج! إيه نسمات الأزهار ومياه الجداول! إيه أغاني البلبل عند الفجر! يا أيام الجهاد المقدس! يا ليالي فلنيج! أي متى أراك وأملأ عيني من جمالك العذب؟
Halaman tidak diketahui