فقالت سعيدة له: «هذه ظنون ووساوس لا ينبغي الاسترسال فيها، ولن تمضي أيام معدودة حتى يتضح الأمر ونقف على حل هذا اللغز. ومن يدري فلعل سيدتي أرسلت إليك صورة من الخطاب الذي أرسلته إلى سليم باسم والدته لتكون على علم به. وعلى كل حال قد جئتك الآن بما هو أهم، فدع تلك الظنون والأوهام جانبا؛ لكي تشير علي بما يجب أن أصنعه.»
ثم أخرجت الخطاب الذي تسلمته من سليم وقالت: «لقد جاء سليم منذ ساعة في عربة وقف بها قرب منزل سلمى، ثم أرسل السائق يدعوني إليه وسلمني هذا الخطاب كي أسلمه لسلمى يدا بيد، وحذرني أن أذكر عنه شيئا لأي أحد سواها. ثم انصرف في العربة التي جاء فيها وعلى وجهه آثار الضعف والانقباض.»
فتناول داود الخطاب وفضه وأخذ في قراءته، وما أتمه حتى تنهد وتهلل وجهه فرحا وقال لسعيدة: «لقد ساق إلينا الحظ بهذا الخطاب أكبر خدمة، ولا يكاد يصل إلى يد سلمى وتطلع على ما فيه حتى يتحقق ما نرجوه من نجاح مهمتنا، ولا يبقى هناك أي أمل في عودة العلاقات الودية بين سلمى وسليم.» ثم شرح داود لسعيدة ما تضمنه خطاب سليم، وأعاد الخطاب إليها بعد أن لصق ظرفه كما كان، وأمرها أن تعجل بتسليمه إلى سلمى. •••
كانت والدة سلمى قد لاحظت خروج سعيدة من المنزل، فلما وجدت أن غيبتها طالت أكثر من العادة قلقت عليها، وما كادت تراها عائدة بعد ساعة حتى سألتها عن سبب خروجها وغيابها، فتنهدت سعيدة وقالت لها: «إن المخدم أرسل يدعوني إليه، وأخذ يتهددني لأني التحقت بالخدمة في منزلكم دون علمه، فذكرت له أني لا أعمل خادمة عندكم ، ولكنكم رثيتم لحالي وعطفتم على شيخوختي فآويتموني في داركم وأوسعتموني برا وإحسانا. لكنه لم يصدقني وعاد يهددني بأنه يعرف كيف ينتقم مني. فلم أعبأ بتهديده، وتركته يسب ويتوعد ورجعت إلى المنزل مسرعة لأكون في خدمة سيدتي سلمى وخدمتكم جميعا.»
فصدقتها والدة سلمى وأعجبت بإخلاصها وحسن تخلصها من المخدم، وقالت لها: «هكذا كل المخدمين، ولكن لا يهمك هذا الأمر.»
ثم سارعت سعيدة إلى غرفة سلمى، فوجدتها مضطجعة في سريرها وقد امتقع لون وجهها وذبل جمالها، وعيناها مغرورقتان بالدموع. فأدركت أن هذا بسبب مقاطعة سليم لها وعدم رده على خطابها الأخير إليه، لكنها تجاهلت وأخذت تعتذر من تخلفها عن خدمتها بعض الوقت وتسألها عن صحتها فقالت سلمى: «أشعر بأني أسوأ حالا مما كنت، والحمد لله على كل حال.»
فتظاهرت سعيدة بالتأثر الشديد، ثم أخذت تجاذبها الحديث إلى أن قالت لها: «يلوح لي يا سيدتي أن مرضك ليس كأمراض أكثر الناس.» وتنهدت.
فعجبت سلمى من هذه العبارة ونظرت إليها متسائلة، فقالت سعيدة: «لو أنه كان مرضا عاديا لأفاد الدواء في علاجه، ولعله مرض نفساني سببه القلق واضطراب الفكر.»
فخفق قلب سلمى وكادت تبكي لانطباق هذا الوصف على حالتها، غير أنها أمسكت نفسها وقالت متجاهلة: «إن الشفاء بيد الله يا خالتي، وما قلقي واضطراب فكري إلا بسبب مرضي.»
فمالت سعيدة عليها وربتت وجهها متلطفة وهمست في أذنها قائلة: «لست ألومك على تكتمك يا بنيتي، فهكذا كل الفتيات المهذبات العاقلات. ولكنك لا تجهلين أننا معشر العجائز لنا من خبرتنا وتجاربنا ما ليس لغيرنا. كما أنك تعلمين مدى محبتي لك ورغبتي في سعادتك، فلو أنك كشفت لي سبب قلقك واضطرابك، فقد أستطيع أن أنفعك بمشورتي.»
Halaman tidak diketahui