ولبثت تنتظر مجيئه منذ ظهر ذلك اليوم وهي لا تكاد تحول نظرها عن ساعة الحائط الكبيرة، تعد الدقائق الباقية على موعد انصرافه من الديوان إلى منزلها، وتكاد لفرط شوقها إلى لقائه تهم بعقارب الساعة فتقدمها عمدا لتقرب موعد اللقاء.
وبقيت حتى الساعة الثانية بعد الظهر وهي تارة تعود بذاكرتها إلى مناجاتهما بالأمس بجوار أبي الهول، وتارة تتخيله قادما إليها وهو يبتسم فلا يسعها إلا أن تقابل ابتسامته بمثلها، ثم تدرك أنه لم يأت بعد، فتأخذ في إعداد العبارات المنمقة لتعبر له بها عن شعورها نحوه متى جاء. كل هذا ووالدتها مشغولة عنها ببعض شئون المنزل، ولا علم لها بما يعتمل في صدرها من عوامل الوجد والهيام.
وازداد قلق أدما، ونفد صبرها منذ أخذت الدقائق تمضي بعد ذلك دون أن يحضر حبيب. ولم تعد تستطيع الاستقرار في مكانها، فأخذت تنتقل من غرفة إلى غرفة، ومن شرفة إلى شرفة، وعيناها شائعتان تحملقان في أشباح الغادين والرائحين في الطريق إلى المنزل، وكلما لمحت شخصا في مثل قامة حبيب، أو يرتدي بذلة قريبة اللون من بذلته، تسارعت دقات قلبها، ثم لا تلبث قليلا حتى تتبين أن القادم ليس هو، فتصعد الزفرات، وتعود إلى غرفتها متخاذلة، لتعاود الوقوف أمام المرآة، لتتحقق أن عينه لن تقع على شيء فيها لا يرضيه، وفي بعض الأحيان كانت تصادف والدتها في إحدى تلك الغرف، فلا يسعها إلا التظاهر أمامها بأنها تبحث عن ورقة أو كتاب، لتخفي عليها ما يشغلها ويقلقها.
ومضت ساعتان، كأنهما لطولهما سنتان، وأدما على هذه الحال، وكلما عادت إلى الساعة، حاسبة أن عقاربها أتمت دورة كاملة منذ رأتها لآخر مرة، وجدت أنها لم تقطع سوى دقائق معدودات.
وأخيرا، وفيما هي مطلة من إحدى النوافذ ، إذا بها ترى حبيبا مقبلا نحو المنزل، فخفق قلبها، وارتعشت ركبتاها، وبردت أطرافها. ثم أبرقت أسرتها، وهان عليها أن تلقي بنفسها من النافذة بين يديه في الطريق، ولا سيما حين رأته يختلس النظر إلى شرفة غرفتها. ثم همت بأن تمضي إلى تلك الشرفة لتطل عليه منها، لكنها فوجئت بأن رأته وقد انعطف فجأة عن الطريق المؤدي إلى المنزل، ثم اتخذ سبيله في العطفة المجاورة التي بها منزل سلمى؛ فأخذتها الدهشة ولم تصدق عينيها أول الأمر، ثم حسبت أنه ضل الطريق ولا يلبث أن يرجع. فلما طال انتظارها دون أن تراه راجعا، تحولت عن النافذة وساقاها لا تكادان تقويان على حملها، وأخذت الهواجس تتقاذفها، ولم تملك عواطفها فارتمت على أول مقعد صادفها واعتمدت رأسها بيديها آخذة في البكاء.
وبعد قليل، سمعت وقع أقدام بالقرب منها فانتبهت لنفسها، وأدركت أن أمها على قيد خطوات منها، فمسحت عينيها ونهضت متجلدة حتى لا تلحظ عليها أمها شيئا. على أن فكرها ما زال مشغولا بحبيب وسبب توجهه إلى منزل سلمى.
ولاح لها أن تلحق به إلى هناك كي تقف على ذلك السبب، غير أنها لم تجرؤ على ذلك، واكتفت بأن تسللت من المنزل إلى المنزل الملاصق له، وتظاهرت بالسؤال عن صديقة لها من الساكنات فيه، في حين أنها كانت تقصد أن تطل على منزل سلمى من نافذة هناك.
وما كادت تطل من هذه النافذة حتى وقعت عيناها على حبيب خارجا من منزل سلمى، فخفق قلبها بشدة، ورجح لديها أنه دخل هناك عن غير قصد ثم انتبه لنفسه فعاد أدراجه إلى منزلها. وسرعان ما تحولت عن نافذة منزل الجيران وعادت إلى منزلها حيث وقفت تطل على الشارع من شرفة غرفتها في انتظار وصول حبيب.
وكانت دهشتها أشد حين رأته يخرج من العطفة التي بها منزل سلمى، ثم يلقي على منزلها هي نظرة خاطفة، وينثني عائدا إلى المدينة دون أن يعرج عليه، وهمت بأن تناديه ولكن الحياء غلب عليها فأمسكت، وبقيت واقفة تنظر إليه من الشرفة حتى توارى عن نظرها، فأحست كأن قطعة من قلبها فصلت منه بسكين، وازداد اضطرابها وامتقاع لونها، ثم تحاملت على نفسها متحولة عن النافذة إلى سريرها حيث ارتمت عليه متظاهرة بحاجتها إلى الراحة، وبقيت ملازمة سريرها والهواجس تتقاذفها. وهي تارة يعاودها الأمل في رجوع حبيب لمقابلتها بعد أن ينتهي من إنجاز المهام العاجلة التي شغلته عنها، وتارة يداخلها اليأس فترجح أنه لن يرجع، وأن ما صرح به أمس من مبادلتها الحب والإخلاص لم يكن إلا مجاراة لها. وهنا يأخذها الندم على تصريحها له بأنها التي أرسلت إليه ذلك الخطاب، بل تلوم نفسها كل اللوم على كتابته، وتعد ذلك عملا من أعمال النزق والطيش لم يكن يليق بمثلها أن تقوم به.
وعند العشاء، سمعت وقع أقدام على سلم المنزل، فاختلج قلبها، وقفزت من سريرها لتفتح باب غرفتها وتستقبل القادم الذي رجحت أنه حبيب. ولكنها ما لبثت أن سمعت صوت القادم فإذا هو أبوها، فعاودت الانقباض، وعبثا حاولت التجلد حتى لا يلحظ أبواها انقباضها وكدرها، فجلست معهما على مائدة العشاء دون أن تستطيع تناول شيء من الطعام، ولبثت بعد ذلك ساعة تتظاهر بالاستماع لحديثهما، وفكرها مشغول بما هي فيه. ثم فقدت كل أمل في مجيء حبيب، فنهضت وأوت إلى فراشها، وباتت ليلتها تتقلب فيه على مثل الجمر، وتتقاذفها عوامل اليأس والرجاء، والشك واليقين، إلى أن اقترب الفجر وكان ذهنها قد كل وتعب فأدركتها سنة من النوم، تخللتها أحلام مختلفة متقطعة، بعضها مفرح لأنه يعيد إليها موقف حبيب معها في منطقة الأهرام وهما يتناجيان بعبارات الحب، وبعضها محزن مزعج لأنه يعيد إليها صورته وهو يمر بمنزلها في طريقه إلى منزل سلمى وعودته منه دون أن يعرج لمقابلتها.
Halaman tidak diketahui