ولما آنس منه إصغاء، واصل كلامه فقال: «إني إذا أغضبني أمر لا أستطيع إخفاء عواطفي قط، فإن كان إلى جانبي أحد عرف أنني في انقباض كما عاينت ذلك في هذه الليلة.»
فتنهد سليم وقال: «لعل ذلك ينطبق علي أيضا.» وكأنه أحس بقرب تغلب صديقه على لسانه فبادر بقطع الحديث وتعلل بميله إلى الرقاد قائلا: «إني أشعر بتعب وألم في الرأس، ولهذا أفضل الرجوع إلى البيت الآن، وإن كنت أود قضاء بقية السهرة برفقتك.»
فأدرك حبيب مراده ولكنه تجاهل وقال: «إن النوم أفضل شيء للراحة، وأنا أيضا أحس مثل هذا التعب لما كنت فيه من الشواغل في هذه الليلة، وأرجو أن أدرك القطار الذاهب إلى حلوان الآن.»
ثم مد يده مودعا، فتصافحا وسار كل في سبيله وفي نفسه أمر يحاول إخفاءه عن رفيقه.
شقاء المحبين
مشى حبيب قاصدا إلى محطة باب اللوق فلما توارى عن صديقه أخرج من جيبه الخطاب الذي تسلمه من مكتب البريد، وجعل يردد نظره فيه ويقرؤه تكرارا مستعينا بأنوار الشوارع على تأمل الخط النسائي الذي كتب به.
وما زال كذلك حتى وصل إلى المحطة فإذا بالقطار قد أقلع منها إلى حلوان منذ دقائق، وسأل عن القطار التالي إليها فعلم أنه يقوم في منتصف الليل، فساءه ذلك لما هو فيه من الهواجس والارتباك. ثم رأى أن يمضي فترة الانتظار في التنزه، فتوجه إلى الجزيرة ليقضي هناك ساعة ثم يعود ليستقل القطار. وكان يسير والخطاب في يده، وأفكاره تتجاذبها الهواجس، وراح يستعرض بذاكرته البيوت التي يختلف إليها والسيدات اللواتي عرفهن لعله يعرف كاتبة الخطاب، فلم ينتبه لنفسه إلا وهو على كوبري قصر النيل، فوقف هناك يتأمل منظر الماء الجاري، ويشنف سمعه بموسيقى خريره وارتطامه بأعمدة الكوبري. وراقته الأنوار المتلألئة على جانبيه كأنها كواكب ثابتة في ذلك الفضاء، فمضى يمشي الهوينى حتى وصل إلى الجزيرة ودخل شارعها المظلل بالأشجار فمشى فيه، ثم عرج إلى منعطف نحو الشاطئ فسمع قرقعة عربة مارة في الشارع، ثم رآها وقفت، فتربص ليرى ما يكون من أمرها، فإذا بشخص ينزل منها ويمشي في منعطف بالقرب من النخلة التي اختفى هو خلفها حتى بلغ النيل فوقف قليلا، ثم انحدر إلى أسفل الشاطئ وجلس على صخر هناك.
وتأمله حبيب فإذا به يشبه صديقه سليما، ثم تحقق أنه هو بعينه، فأشكل عليه أمره وعجب لمجيئه إلى هناك في ظلام الليل وقال في نفسه: «يحسن أن أمكث مختفيا لأرى ماذا جاء به إلى هنا.» ثم تذكر ما رآه فيه من ارتباك ذلك المساء فخاف أن يكون قد وقع في اليأس وأراد الانتحار غرقا في النيل، فمشى بضع خطوات بكل خفة حتى أصبح وراءه وجلس مختفيا وراء نخلة أخرى هناك ليرى ما يكون من أمره، وليسارع إلى إنقاذه إذا رآه يلقي بنفسه في النيل، وشكر الله على ما كان من تأخره عن اللحاق بالقطار إلى حلوان.
أما سليم فإنه جلس إلى الشاطئ مطرقا والماء جار أمامه والظلام مستول على تلك الجهة إلا ما يصل إليها من الأشعة البعيدة المنبعثة من أنوار الكوبري. وبعد قليل أخذ يتلفت يمنة ويسرة كأنه يحاذر أن يراه أحد، ثم تنفس الصعداء وقال متحرقا: «آه من حوادث الزمان، وآه من جهالتي وقلة تدبيري! آه يا سلمى يا حبيبتي ومنى فؤادي!»
ثم خنقته العبرات فأطلق لنفسه عنان البكاء حتى سمع حبيب صوت شهيقه فتفتت قلبه حزنا عليه وجاشت عواطفه حتى كاد يشاركه البكاء، لكنه أمسك ليرى ما يكون منه بعد ذلك فإذا به بعد البكاء والشهيق برهة عاد فقال: «أي سلمى حبيبتي! إني أحبك والله حبا لم أشعر بمثله لغيرك، ولم أكن أعلم أن الحب يملك القلب ويتسلط على العواطف إلى هذا الحد. آه ما أحلى الحب وما أمره!»
Halaman tidak diketahui