Jawhar Insaniyya
جوهر الإنسانية: سعي لا ينتهي وحراك لا يتوقف
Genre-genre
21
ظهر هذا النوع من الهومو منذ نحو 250 ألف سنة، وظل يعيش حتى وقت قريب منذ 30 ألف سنة، بعد ظهور الإنسان العاقل، الذي كان في هذا الوقت وصل هو نفسه إلى أوروبا. ونظرا لأن ظهور إنسان نياندرتال تزامن مع العصر الجليدي الأخير، يوجد سبب جيد للاعتقاد في أن إنسان نياندرتال أتقن فن التدفئة من خلال الاحتماء في الكهوف، وصنع ثيابا من جلود الحيوانات، مثل الثور الأمريكي أو الدب. لم يعثر على أي بقايا لإنسان نياندرتال في شمال الخط الذي يشير إلى امتداد سطح الأرض الدائم التجمد في هذا الوقت، كما لم يعثر عليه في أفريقيا ولا في جنوب آسيا، ورغم تحفظات بعض علماء الأنثروبولوجيا، توجد أوجه تشابه مذهلة بين إنسان نياندرتال والإنسان العاقل لدرجة جعلت كثيرين يعتبرون الاثنين شكلين مختلفين للنوع نفسه (هومو سيبيان نياندرتالنسيس وهومو سيبيان سيبيان). ويذهب البعض إلى أبعد من هذا، واقترحوا أن إنسان نياندرتال هو سلف الإنسان الحديث. ومع ذلك تخبرنا الأحياء الجزيئية بقصة أخرى، سنشرحها بعد قليل.
الواضح لنا أن إنسان نياندرتال كان يمتلك ثلاثا من الصفات الضرورية للسعي الإنساني؛ المشية المستقيمة، واليدين ذاوتي الحركة السلسة، ودماغ حجمه مناسب. لا نعلم ما إذا كانت حنجرته متطورة بالشكل الكافي لتمكنه من الحديث أم لا. تكمن المشكلة في التشريح التفصيلي للبلعوم؛ وهو الأنبوب الذي يبدأ من آخر الفم ثم ينقسم: إلى الحنجرة، التي تتنفس عبرها الحيوانات بما في ذلك الإنسان، والمريء، الذي تتم من خلاله عملية البلع لدى الحيوانات بما في ذلك الإنسان. توجد داخل الحنجرة الأحبال الصوتية، التي تتكون من غشاءين مرنين يمتدان عبرها من الداخل. يهتز الغشاءان عند خروج الهواء من الرئتين عبرهما؛ مما يصدر صوتا. يعمل هذان الغشاءان إلى حد ما مثل أوتار الكمان؛ فيمكن تقصيرهما وإطالتهما من خلال انقباض وانبساط عضلات متناهية الصغر تتحكم أيضا في فتح المساحة بينهما وإغلاقها. يثبت هذه العضلات تكوينان غضروفيان؛ الغضروف الدرقي في طرف، والغضروف الطرجهالي في الطرف الآخر. إن الوضع الدقيق لكل هذه القطع من الغضاريف والأنسجة المرنة والعضلية في الحنجرة هو الذي يسمح لأحد الكائنات بتعديل الأصوات عبر نطاق هائل من الاحتمالات، بينما لا يستطيع كائن آخر أكثر من مجرد النخير. على عكس العظام، فإن كل التكوينات التي ذكرناها؛ الغضاريف والنسيج المرن والعضلات، تتحلل عند وفاة الحيوان؛ ومن ثم لا توجد بقايا لها، متحجرة أو غير متحجرة، لتحسم الأمر بشأن امتلاك صاحبها لأحبال صوتية متطورة أم لا. توجد قطعة صغيرة من العظم (العظم اللامي) تتصل عن طريق العضلات إلى حد ما على نحو مختلف بالجزء الخلفي من الفم لدى الإنسان والشمبانزي، ويسهم هذا التكوين في قوة الصوت الصادر، حتى إذا كان العظم اللامي يكتشف مع العظام الأخرى عادة، وهو ما لا يحدث بوجه عام، فإن هذا لا يساعد كثيرا نظرا لتشابه شكله كثيرا لدى النوعين، وستكون أدوات ربطه الخاصة قد تحللت. ولهذه الأسباب نحن لا نعرف إذا كان الهومو نياندرتالنسيس قد تمتع بالقدرة على الكلام البشري أم لا.
22
شكل 4-1: المشية المنتصبة. مقارنة بين هيكل إنسان (يسارا) وهيكل غوريلا (يمينا). وضع الهيكل العظمي الثاني في وضع السير على قدمين، رغم أن الغوريلا تسير عادة على أربعة. أعيد طبعها بإذن من متحف التاريخ الطبيعي، لندن.
بعد مرور بضع مئات الآلاف من السنوات على ظهور إنسان نياندرتال في أوروبا، وصل نوع جديد من الهومو إلى سهول شرق أفريقيا، كان يسير منتصبا بسهولة وبإجادة (نتيجة لتغيرات في الحوض وعظم الفخذ والقدمين، شكل
4-1 )، وكان لديه إبهام متحركة وأصابع أقصر (شكل
4-2 )، سمحت له بالإمساك بالأدوات على نحو أفضل من أي من أسلافه، ليس فقط بقبضة القوة (الإمساك بالشيء بين الإبهام والأصابع المغلقة بإحكام عليها)، بل بقبضة الدقة الأفضل (الإمساك بالشيء بين الإبهام وأطراف الأصابع المفرودة). الأهم من ذلك أن دماغه كان أكبر كثيرا
23 - ثلاثة أضعاف حجم دماغ الأوسترالوبيثكوس جارحي - وتطور لديه صندوق الصوت الذي تحدثنا عنه للتو (شكل
4-3 )، الذي تمكن من خلاله الحديث مع الآخرين من نوعه بطريقة أكثر تعقيدا، وكانت الطبقة العليا من دماغه، القشرة، تحتوي على عصبونات (خلايا عصبية) أكثر بثلاث مرات من الموجودة لدى الشمبانزي الحديث (شكل
Halaman tidak diketahui