Jawahir Tafsir
جواهر التفسير
Genre-genre
كما الناس مجروم عليه وجارم
ويرى صاحب المنار أن الشرط والجزاء مفروضان هنا وفيما تقدم فرضا لأجل كشف ما ينطوون عليه، وإحضار حقيقة أمرهم في صورة المحسوس جريا على أساليب الكلام المألوفة عند العرب إذا أريد تنبيه الأذهان وتوجيهها إلى الاحاطة بمعاني الكلام، ولأجل ذلك استخدم العلماء الباحثون هذا الأسلوب عندما يرومون الكشف عن مخدرات المسائل وحل عويصات المشكلات، فإنهم كثيرا ما يقولون إن قيل كذا أجبنا بكذا؛ وبناء على رأيه هذا فلا داعي إلى البحث عن الداعي إلى الايمان، هل هو الرسول صلى الله عليه وسلم أو المؤمنون أو جماعة من المنافقين أنفسهم، بحسب ما تقدم، وهو رأي وجيه، وقد ألمحت إليه وعزوته إلى بعض المفسرين في آخر تفسير الآيتين السابقتين.
ويرى جمهور المفسرين أن مرادهم بقولهم في الرد على داعي الايمان { أنؤمن كمآ آمن السفهآء } التبرؤ مما دعوا إليه من الحق على أبلغ وجه، فقد اعتبروا ذلك من شأن السفهاء الذين طاشت حلومهم وزاغت أفكارهم، وذلك ما لا يتفق مع ما يرون عليه أنفسهم من رجاحة العقل، واتقاد الذهن، ونفاذ البصيرة، وينطوي - مع ذلك - جوابهم على قصد التعريض بالمؤمنين بأن السفه هو الذي قادهم إلى الايمان، والتخلي عما كانوا عليه من العقائد والعبادات، ولا يبعد أن يقصدوا التعريض بالسابقين الأولين من المهاجرين، فإن جلهم كانوا من المستضعفين، كصهيب وبلال، ومن عادة المتكبرين في الأرض احتقار طبقة الضعفاء ووصفهم إياهم بالسفه، ولمزهم بقبيح الكلام، كما أن من شأنهم تهجين الدخول في مداخلهم والشموخ عن التأسي بهم في مواردهم ومصادرهم.
ولا يرد على ذلك كون ضعفهم تحول إلى قوة بعد الهجرة وقيام الدولة الاسلامية التي أظلت الجميع بظلها الوارف، وآوتهم في حصنها الحصين، وتآزر المؤمنون على القيام بواجباتها بحيث صاروا كالبنيان يشد بعضه بعضا، وكالجسد يشتكي كل عضو منه إذا ما تألم عضو واحد، ونعم في حماها المستضعفون كغيرهم بالمنعة والاطمئنان، ذلك لأن اللامزين بهذا الوصف إنما كانوا يعيرونهم بما كانوا عليه من قبل من الذلة والضعف والفقر.
ويحتمل أن يريدوا بالسفهاء المهاجرين والأنصار جميعا لاعتبارهم ما أتوه سفها يربأون بأنفسهم عنه، فالمهاجرون خرجوا من ديارهم وقد تركوا وراءهم الموطن والأولاد والأموال بعدما تقطعت الصلات بينهم وبين عشائرهم الأدنين، وحلت محلها العداوات والإحن بسبب اعتناق هذا الدين والقيام بالدعوة إليه، والأنصار آووا المهاجرين في بلادهم وأشركوهم في أموالهم وآثروهم على أنفسهم وعيالهم وكلا الأمرين في نظر المنافقين سفه وضلال، لأنهم ينظرون إلى الأمور بالمنظار المادي، ومن شأن الناس أن يعدوا المال قوام الحياة، وأن يعتبروا الأهل والعشيرة معقل العز، كما أن من شأنهم أن يضيقوا ذرعا بالمهاجرين إليهم إذا ما شاركوهم في معايشهم، وضايقوهم في مساكنهم، فلا غرو إذا نظر المنافقون إلى طائفتي المهاجرين والأنصار نظر الاستخفاف والازدراء، ونسبوهم إلى السفه، وحكموا عليهم بالضلال.
وبناء على ما تقدم رأى أكثر المفسرين أنه لا يتأتى صدور هذا القول منهم إلا فيما بينهم، أو أنهم كانوا يقولونه في سرائرهم من غير أن يبوحوا به؛ وإلى الاحتمال الأول ذهب الواحدي حيث قال: إنهم كانوا يظهرون هذا القول فيما بينهم لا عند المؤمنين، فأخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بذلك عنهم.
وهذا لأنهم لو كانوا يعلنون تسفيه الحق وتضليل المحقين أمام المؤمنين لكانوا مجاهرين بالكفر وعدوا من الكفرة الصرحاء لا من المنافقين المتكتمين، فإن النفاق يقتضي أن يطوي صاحبه سريرته عن الناس ويبدي لهم خلافها.
وضعف أبو السعود في تفسيره رأي الجمهور؛ نظرا إلى أن الذي تقتضيه جزالة عبارات التنزيل أن يكون صدور هذا الجواب بمحضر من المؤمنين الناصحين لهم، لأن السياق يدل على حوار بين طائفتي الايمان والنفاق، وتدافع بين كتلتي الوفاق والشقاق، واختار أن قولهم هذا - وإن صدر عنهم بحضور الناصحين - لا يقتضي كونهم مجاهرين وإنما هو أسلوب من أساليب الخداع، وفن من فنون النفاق وارد مورد قولهم
واسمع غير مسمع
[النساء: 46]، من احتمال الأمرين بحسب تقدير المعمول إذ يمكن أن يحمل على الدعاء بالخير إن قدر غير مسمع مكروها، وبعكسه إن قدر غير مسمع خيرا، وكانوا يلقون هذا الكلام على النبي صلى الله عليه وسلم استخفافا وسخرية، فقد كانوا يوهمونه قصد الدعاء بالخير وهم يبطنون ضده، فنزل القرآن هاتكا سترهم كاشفا سرهم، حتى لا يتطاولوا على حضرة صاحب الرسالة بعبارات الهزء والسخرية.
Halaman tidak diketahui