157

" لا تجزىء صلاة لا يقيم فيها الرجل صلبه في الركوع والسجود "

، وروى أحمد والبخاري عن حذيفة - رضي الله عنه - أنه رأى رجلا لا يتم ركوعه ولا سجوده، فلما قضى صلاته دعاه، فقال له حذيفة: ما صليت ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمدا صلى الله عليه وسلم.

صفة الصلاة الصحيحة:

وبالجملة فإن الأدلة متضافرة على أن الصلاة الصحيحة المقبولة عند الله هي الصلاة المصحوبة بالطمأنينة والسكينة، المقترنة بروحها ومصدر سلطانها - وهو الخشوع - وبدون ذلك لا يكون لها على النفس سلطان ولا في الحياة أثر، فإنها تعد ميتة لا تغني شيئا ولا تحيي قلبا، وأذا أردت أن تعرف حقيقة ذلك فأمعن فكرك فيما تقوله في صلاتك مستحضرا معانيه، مستشعرا عظمة الله المعبود الذي أنت واقف بين يديه، تجد كل كلمة تلفظ بها دافقة بمعنى حيوي يسري في نفسك كما تسري الروح في جسمك، وأول ما تنطق به التكبير، وبه تدخل في صلاتك، وهو يسكب في نفسك شعورا بأن كل ما في الوجود - وإن عظم شأنه وعلا قدره عند الخلق - هو صغير حقير بجانب كبرياء الله تعالى وعظمته، إذ ليس من المعقول أن يقارن بين الخالق والمخلوق، وبين القديم والحادث، وبين الباقي والفاني، فالمخلوق مهما أوتي من قوة أو سلطان فهو نسبي في حدوده لا يوازي شيئا بجانب قوة الله المطلقة، وسلطانه المهيمن على الوجود، وإذا استشعرت هذه الحقيقة كان لها أثر نفسي عليك؛ لأنك إما أن تكون من ذوي القدر والمكانة عند الناس بمنصبك، أو مالك، أو جاهك ووجاهتك، وإما أن تكون من الذين تتجاوزهم الأنظار ولا زنة لك عند الناس لضعفك المادي، ولضعة قدرك بينهم، فإن كنت من الصنف الأول، كان نطقك بتكبير الله عز وجل كافيا في تنبيه قلبك الغافل، وإيقاظ بصيرتك النائمة بأنك لا مزية لك على غيرك من الناس، فأنتم جميعا متساوون في الضعف، والفقر، والذلة والمسكنة أمام الله، وليس ما أوتيته - مما تظنه أو يظنه غيرك مزية وعلوا لقدرك - إلا ابتلاء من الله تعالى مالك الملك ذي الطول والحول الذي يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء، ويهب النعمة من يشاء، ويسلبها ممن يشاء، وله ما آتى وما نزع، وبيده ما وهب وما سلب، فيكون لك من ذلك دواء لغرورك، وكبح لشرورك، لأنك تستشف بهذا الشعور عيوبك المتنوعة، سواء ما كان خاصا بك أو كان مشتركا بينك وبين الناس، وتدرك أنك واحد من العباد المفتقرين إلى الله لا مزية لك بينهم، ولا فضل لك عليهم إلا بقدر ما تتقي ربك، وتتقرب إليه بالتذلل والخضوع والخشية والخشوع، وذلك ينافي ما أنت فيه من الغرور والاستكبار والتطاول على الناس بما ابتلاك الله به.

وإن كنت من الصنف الثاني كان شعورك بما يوحيه التكبير كافيا لأن يرفع من قدرك، فلا ترضى أن تنزل منزلة المهانة والذلة بين الناس بسبب فقرك أو ضعفك، فإنهم مثلك، وكلكم في الضعف سواء، ولئن كان بعضهم أوتي ما لم تؤته من أسباب القوة ووسائل النعيم في الحياة الدنيا؛ فإن ذلك لا يعدو أن يكون ظلا زائلا، وخيالا عابرا، وإذا أنت تقربت إلى الله بصالح الأعمال، واستمسكت بعروة التقوى كنت أجدر منهم بالعزة، وأولى منهم بالكرامة، وهذا الشعور نفسه كفيل بتحرير نفسك من الذل لغير الله وجعلك تقصر خضوعك على مقام الربوبية، فما أعظم هذه التربية النفسية للمصلين، سواء كانوا من الفريق الأول أو الثاني.

وإذا شرعت في التلاوة وافتتحتها بالاستعاذة عملا بقول الله تعالى:

فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم

[النحل: 98]، شعرت أنك تلجأ إلى حمى الله المنيع هروبا من الشيطان ووساوسه ومكائده، وفي ذلك ما يوقظ نفسك لما يريد بك الشيطان من سوء، وما يقصدك به من إضلال، فهو عدوك الذي لا ينفك عن الكيد لك؛ حتى يرديك في الجحيم إن لم يتداركك الله بلطفه، ويعصمك منه بحوله، وهذا يقتضي أن لا يكون لجوؤك إلى الله لجوءا قوليا فحسب، بل لجوءا قلبيا وعمليا بحيث تستنفد طاقتك في مقاومة مكائد إبليس بالطاعات التي تؤهلك للدخول في حمى الله، أما إذا قلت ذلك بلسانك فحسب، وكان قلبك وجوارحك في قبضة الشيطان، لم يغنك هذا القول شيئا، وإنما يكون مثلك مثل الأسير في قبضة عدوه لا يستطيع الانفلات منه، وهو مع ذلك يدعي بلسانه أنه هارب من ذلك الأسر، ولاجىء إلى حمى أحد الملوك، وكيف يكون لمثله اللجوء وقد أحاطت به حبال الأسر، ومنعته من قصده قيود القهر.

فإذا نطقت بالبسملة استشعرت عظمة الموقف الذي أنت واقفه، وقدر العمل الذي أنت عامله، فإنك واقف بين يدي الله، وعامل باسمه، ومن شأن ذلك أن يوحي إليك أنه لا اعتداد بشيء ما لم يكن لله تعالى خالصا، فإذا قلت { الحمد لله رب العالمين } شعرت بفيض من نعم الله تعالى يغمر جوانبك ويملأ وجودك ووجود كل شيء، فإن كون الحمد محصورا في الله سبحانه دليل على أنه مصدر كل نعمة، وهذا داع إلى قطع حبال التعلق بغيره تعالى؛ لأجل تحقيق منفعة أو دفع مضرة، ويؤكد ذلك وصفه بأنه رب العالمين، فهو مشعر بخضوع كل ما في الوجود لعزه وسلطانه، وافتقار كل كائن إلى فضله وإحسانه، فما من ذرة في الكون إلا وهي واقعة تحت حيطة قدرته، معلنة بلسان حالها افتقارها إلى فضله ومنته، وشعورك بذلك يقوي صلتك به تعالى بحيث لا ترى غيره أهلا لأن يرجى أو يتقى، كما يستدعي أن تكون في أحوالك المتقلبة، وتصرفاتك المتنوعة تتحرى مرضاته، وتجانب سخطه، ولا ريب أن قلبك - في مثل هذا الموقف الذي تتجلى فيه آيات توحيده تعالى، وتشاهد شواهد عظمته وجلاله - تغمره الدهشة وتمتلكه الهيبة، غير أنك إذا قلت { الرحمن الرحيم } أحسست بالسكينة تسري في نفسك، وتمتزج بدهشتك، وبالطمأنينة تزاحم الهيبة في قلبك، فتتعادل فيه كفتا الخوف والرجاء، لأنك تستشعر أن ربوبيته تعالى - مع جلاله الباهر وسلطانه القاهر - هي ربوبية رحمة وإنعام وفضل وإحسان، ويقوي هذا التعادل إذا ما قلت: { ملك يوم الدين } واستشعرت خطورة ذلك الموقف الذي تمثل فيه بين يدي رب العالمين، وقد تجردت من كل ما خولته في الدنيا، وقطعت جميع علائقك بأحبابك ونصرائك فيها، لتعرض عليك أعمالك السيئة والحسنة فلا يخفى منها خافية، وأنت بين الجنة والنار، أولاهما عن يمينك والثانية عن شمالك، لا تدري إلى إيهما منقلبك والله بك محيط لا مهرب لك عنه، ولا نصير لك دونه، وفي شعورك بهذا تقوية لعزائم الخير في نفسك، وكبح لعزائم الشر التي يمليها عليك هواك. فإذا قلت { إياك نعبد وإياك نستعين } ، أحسست بتضاعف الهيبة، لأنك انتقلت إلى خطاب الله تعالى خطاب الحاضر، ومضمون الخطاب نفسه يستلزم منتهى الخضوع والوصول إلى أقصى حد في التواضع، لأن معنى خطابك تقديم عبادتك إليه تعالى وهو غني عنك وعنها، وإنما هي وظيفتك التي لأجلها خلقك، ورفع قدرك بما بسط لك من نعمه وسخر لك من خلقه، فقيامك بها إنما هو شرف لنفسك ومنفعته عائدة إليك.

وهذا الخطاب منك يقتضي عدة أمور، منها: صدق المقال، وإخلاص السريرة، وتعظيم المقام، والاستمرار على الخضوع المطلق للمعبود، وطاعته الدائبة، والعطف والرحمة بعباده. فإن الله علمك في هذا الخطاب أن تشرك نفسك مع غيرك من عباده العابدين، ولم يعلمك أن تخاطبه بصيغة فردية، التي تقتضي استقلالك عنهم، وفي هذا ما يقتضي وحدة الأمة المؤمنة القائمة بعبادة ربها، وحدة عامة في الشعور والإحساس، وفي القول والعمل، وفي المبادىء والأهداف، وفي الآلام والآمال. فإذا قلت: { وإياك نستعين } شعرت بقيمتك عند خالقك، إذ لم يجعل بينك وبينه وسائط تستعين بها في طلب محبوب أو اتقاء مخوف، كما أنه لم يجعل بينك وبينه وسائط تعبدها دونه، فالعبادة والاستعانة خاصتان به تعالى وذلك فيما لم يجعل الله التعاون فيه بين الناس من سنن كونهم ونواميس حياتهم - كما تقدم تفصيله في تفسير الفاتحة الشريفة - وفي شعورك بهذا تخليص لك من التشبث بالأوهام، كالضراعة إلى الموتى في القبور، أو الى الأشجار والأحجار، أو العيون والأنهار، أو الجن والشياطين، في طلب فكاك من معضلة أو وصول إلى هدف. فإذا قلت: { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضآلين } ، شعرت أنك أمام طريقين:

Halaman tidak diketahui