يدق الجرس وتنتهي الحصة. تظل في مكانها جالسة تخشى أن تنهض، فإذا نهضت واقفة أحست الخيط الدافئ يمشي فوق ساقها ناعما كذيل السحلية، يختفي داخل الحذاء، يبلل جوربها بلون كالحبر الأحمر. تتلفت حولها حتى يخلو الجو ثم تمشي بحذر جنب الجدار. تخفي المريلة من الخلف بحقيبة الكتب، وفي البيت تنكفئ فوق الحوض في دورة المياه. تغسل المريلة والسروال، تغسلهما المرة تلو المرة، ثلاثين مرة، ولا يمكن أبدا أن يختفي الأثر، أو يزول الإثم، وإن التهبت يداها من الدعك. تكور السروال في يدها. تخفيه وراء ظهرها كأنما هو الدليل. تخشى أن تعلقه فوق حبل الغسيل فتراه عين. تحفر له في الأرض حفرة كالقبر، تدفنه وتهيل عليه التراب، ثم تختبئ في غرفتها تحت الغطاء، كمن اقترفت جريمة. تحتضن الوسادة، وتغني لها بصوت هامس كالهواء: «هوه، نامي نينا هووه ...»
صوت جدتها يسري في أذنيها، تغني وحفيدتها في حجرها. لم تكن حفيدتها ماتت بعد، لكنها كانت تعرف أنها حتما ميتة، وأنها هي هذه الحفيدة. تسمع صوتها يدندن كحفيف الهواء. يداعب زعانف النخلة. تغمض عينيها في لذة الموتى. يتركهم الآخرون لحالهم. لا يطلبون منهم الرد أو الكلام.
كانت تكره الكلام. تختفي في غرفتها ليتركها الآخرون لحالها. لا يطلب منها أحد شيئا. أو يوجه لها سؤالا. يرتعد جسدها حين تدخل أمها معها الحمام. تفتش بين ثنايا جسمها عن أعز ما تملكه البنات. شيء غير مرئي أسفل البطن. كالورقة الشفافة تمزقه نفخة هواء. ينكسر الزجاج لأقل خبطة، أو دبة قدمها فوق السلم. يحترق كرأس عود الكبريت، وينتهي «إلى الأبد».
تمط جدتها شفتيها وتقول «إلى الأبد» ثم تغمض عينيها وتغيب في النوم، وهي واقفة وراء النافذة في الظلمة. يتسرب من عقب الباب ضوء أصفر من المطبخ. تسمع صوت الماء يتساقط من الصنبور، وقعقعة الصحون في الحوض . شبشب أمها فوق البلاط يزحف. صوت الشارع يتسرب من بعيد. أضواء صفراء شاحبة تمشي فوق الجدار. تمر سيارة فيطمس كشافها كل شيء. لا تبقى إلا دائرة صغيرة كالعين الصفراء تجري فوق السقف ثم تهبط إلى الأرض وتختفي.
لم تكن تعرف أن الليل تأخر إلا حين تصمت الصحون، ومياه الصنبور، وينطفئ نور المطبخ، وأنوار البيوت في الشارع. لا تبقى إلا ذؤابة صفراء ترتعش في المساحة السوداء. حينئذ تتيه عيناها في الخضم الأسود. تتعلقان بنقطة ضوء. نجمة وحيدة في السماء، أو مصباح في زورق في بحر لا تراه، ويهبط عليها الحزن فجأة كالبرد. تسري القشعريرة في جسمها، وتفقد الرغبة في الحياة. تحملق في وجه الليل، أو الوجوه العابرة في الظلمة، أو أوراق شجرة يحركها الهواء. تمد ذراعها أمامها خارج النافذة، كأنما تستعيد الصلة بينها وبين الكون. أو كأنما ستعثر في ذلك الكون على شيء. على وجه. عينان أو ذراعان تمتدان نحوها، وفي هذه اللحظة، في هذه الحركة الصامتة الممدودة في الظلام خارج النافذة، كأنما تجد الخلاص من الإثم، ويتسرب الحزن من مسام الجسد. يعود الانسجام إلى جسمها وترتد إليه الروح.
في هذه اللحظة يمتلئ قلبها بحنين غامض. كالحب الجارف. تتراءى لها صديقتها الوحيدة قادمة، ترتدي مريلة المدرسة بلون مريلتها. بيضاء من القطن فيها مربعات زرقاء. كولة بيضاء حول العنق. في يدها حقيبة الكتب، تقذفها عاليا في الهواء، وتتلقفها بيديها الاثنتين كالكرة. طويلة ممشوقة غير محنية الظهر. تتوهج عيناها بالضوء. تكاد تقفز من النافذة لتعانقها، تنطلق من صدرها الصرخة. في غرفتها تجلسها وتغلق الباب. تنفرج شفتاها المطبقتان عن سيل لا ينقطع من الكلام. تلصق أمها أذنها بالباب تتسمع. لا تسمع إلا كلمات متقطعة كالشهقات. أو ضحكات مكتومة منفجرة بالفرح إلى حد النشيج. - ج ج ج ج ج جنات! - نر نر نر نر نر نرجس!
يرن اسمها «نرجس» بصوت صديقتها كأنما ليس اسمها. رنين، يبقى في الأذن، غير كل الأصوات يحلق في الجو دوائر من الضوء بلون الفضة. يسري في الكون كالمياه الذائبة تنحدر بين الصخور إلى الوادي، وبشرتها سمراء بلون الطمي، تلمع تحت الشمس بلون النحاس الأحمر.
في المرآة ترى نفسها سمراء منطفئة اللون. تبدو صديقتها كأنما هي الأصل. ليست هي إلا ظلها الداكن في الكون. أو نسخة باهتة من الكربون. يداها كبيرتان تخفيهما في جيوب المريلة، وقدماها أكبر من قدمي النبي، هكذا قالت جدتها، تخبئهما حين تجلس تحت التخت، ملامح وجهها تطمسها نحت مسحوق كالدقيق الأبيض، تشتريه أمها من الصيدلية في علبة اسمها البودرة، وتقول إن البشرة السمراء علامة القبح، أو الفقر، أو الانحدار من سلالة العبيد، والبشرة البيضاء علامة النبل والأصل العريق، الأشراف والأسياد، أو سلالة الملك الممدودة حتى النبي محمد
صلى الله عليه وسلم .
في النوم تتكور تحت اللحاف تخفي وجهها عن الأعين، وفي الحلم يتراءى لها النبي أبيض البشرة يشبه الملك. لم تر في أحلامها نبيا أسود اللون، والله أيضا كانت تراه في النوم بوجه أبيض كاللبن، وإبليس كان يظهر بوجه أسمر داكن اللون كوجهها.
Halaman tidak diketahui