كلمتان اثنتان ترددهما وهي غارقة في النوم، ولم تسأل أمها أين تكون جنة عدن. لم تكن تسأل أي شيء، وعليها أن تصدق كل شيء دون سؤال. كل شيء! هكذا يقول الشيخ مسعود. تطرقع العصا الخيزران في الجو. كل شيء يا بت يا نفيسة وإلا كان مصيرك نار جهنم مع إبليس! ولم تعرف من هو إبليس. كانت تظن أنه أخوها الصغير. ولدته أمها بعدها بعامين. اشترت له كراسة وقلم رصاص. منذ دخل الكتاب والشيخ مسعود يناديه باسم إبليس. يلسعه على بطن قدميه بالعصا الخيزران. يختفي منه داخل الفرن.
في الليل يرقد إلى جوارها فوق البرش. تسمعه ينشج بصوت خافت. تلف ذراعيها حوله حتى الصباح. وفي الشتاء تتغطى معه بالبرش. تتسرب الريح الباردة من شقوق النافذة. تغمض عينيها وتحلم بلحاف سميك من القطن. لم تكن أحلام أي بنت في القرية تزيد عن لحاف من القطن. كلمة «القطن» عرفتها منذ ولدت. أمها تزرع القطن. تحمل الزكيبة فوق رأسها. تتجمع الزكائب في بيت العمدة، وفي اليوم التالي تختفي. لا أحد يعرف أين تذهب، ويأتي الخفير يدق الباب بكعب البندقية. يختفي أخوها في صدر أمها. يشده من بين ذراعيها. يلكزه في كتفه بالسونكي. ياللا يا إبليس على الجهادية! - الجهادية!
كان الخفير واقفا في صحن الدار. داخل بدلة رسمية بلون الأرض. تتدلى منها أزرار بلون الصدأ. بشرته رمادية تنتشر فوقها بقع وبثور كذرات التراب، يغمض عينيه ويفتح فمه قائلا: الجهادية. فكاه كبيران ينتفخان كفكي المقص أو الكماشة. يمط الألف الممدودة بعد حرف الهاء. يترك فمه مفتوحا للهواء وجفونه مغلقة، ثم يغلق فمه ويفتح عينيه. يشد على أضراسه وهو يضغط على الكسرة تحت حرف الدال. الجهادية! تخفي النسوة أولادهن في صدورهن. يتكور الولد في حضن أمه يود العودة إلى الرحم.
منذ فرعون الأول لم تكن الجهادية إلا الموت، تلد المرأة ابنها وتقدمه قربانا للإله. يجلس فوق عرشه المذهب ومن حوله الجنود. يرونه مرسوما فوق ورق الصحف. يتغير اسمه من زمن إلى زمن. تتغير الحروف والأسماء لكن العرش يبقى، وصفوف الجنود. تتغير أشكال البدل ونوع القماش. والأزرار فوق الصدر، والشارة فوق الكتف، ويأتي الأمر فوق ورقة مختومة بصورة النسر - تفوح منها رائحة الرصاص، والجلد القديم المدبوغ في المطبعة، وتراب السجاجيد في المكاتب المغلقة. والصورة داخل الإطار المذهب. رأس ثابت في الهواء كرأس أبي الهول. الوجه مربع كالضبع. العينان شاخصتان في الفراغ، والشفتان منفرجتان في ابتسامة على شكل اعوجاجة في الفم. - الجهادية يا ولد!
خلعت أمها المنديل الأبيض من حول رأسها. أمسكت شعرها الأسود الطويل بيديها الاثنتين. شقت جلبابها من فتحة العنق شقين. تقدمت طوابير النسوة يلطمن الخدود. صراخهن يتصاعد إلى السماء. - يا هوووووووه ...
كأنما ينادين على إله اسمه يا هوه. يتقدم نحوهن الشيخ مسعود. يمشي بخطوته البطيئة داخل جلباب من السكروتة، وعمامة بيضاء من الحرير، لها شراشيب حمراء يطيرها الهواء. يقترب من أمها ويقول لها بصوت وقور: ابنك عند ربه في السماء.
ضربت أمها بيدها المشققة فوق ثديها العاري. بإصبعين اثنتين أمسكت الحلمة السوداء. ضغطت عليها فاندفع خرطوم من اللبن. يا ولداه! يا ولداه! النسوة من حولها يندبن في صوت واحد: يا ولداه! يا ولداه! - ابنك في جنة عدن مع الأنبياء والشهداء.
كان الشيخ مسعود واقفا ومن خلفه الخفراء. نطق كلمة الشهداء مشرئبا بعنقه نحو السماء. فتح فمه عن آخره وهو يمط الألف الممدودة بعد حرف الدال. أغمض عينه وترك فمه مفتوحا كأنما تثاءب ونام واقفا والألف في فمه ممدودة.
كفت أمها عن الصراخ. سارت نحوه بقدميها الكبيرتين الحافيتين. صدرها عار وعيناها مكشوفتان. ركبت فوقه كما تركب فوق البقرة. أهالت فوق رأسه التراب واللعنات، لعنت أمه وأباه وجده حتى سابع جد. لعنت جنة عدن والأنبياء والشهداء، لعنت الملوك والفراعنة حتى الإله رع.
كانت الشمس تنحدر في الأفق قبل الغروب، تجمع الأطفال فوق الجسر يتابعون المشهد، والخفراء أيضا كانوا واقفين. كل منهم يتأبط بندقية لها سونكي طويل. عيونهم نصف مغلقة كأنما هم نائمون؛ فالمشهد قديم منذ سيدنا نوح، يبعث على الملل.
Halaman tidak diketahui