ثم انغلق الباب وغرقت الغرفة في الظلام. سمعت المفتاح يدور حول نفسه ثلاث مرات، وأقدام تسرع فوق الممر البلاط. طرقعة حذاء وأنفاس تلهث.
نرجس
ظلت تلهث حتى دخلت غرفتها العلوية واغلقت الباب. أسندت رأسها إلى الجدار وأغمضت عينيها. طفلتان تلعبان الحجلة في فناء المدرسة. تجريان بين الزرع الأخضر وراء الفراشات، فتحت عينيها ورأت نفسها واقفة أمام المرآة. خلعت الطرحة من حول رأسها. انسدل شعرها الأسود حول كتفيها. ضفيرتان طويلتان كبنات المدارس. هزت رأسها فاهتزت الضفيرتان. - نرجس؟
رن صوتها في أذنها غريبا. كلمة نرجس أشد غرابة. اسم امرأة أخرى ربما. ظلها مرسوم فوق الجدار. منتصب إلى جوارها. - أهي نرجس؟ روح أخرى تتقمص جسدها؟
كانت تؤمن بوجود الأرواح. الجان ورد ذكره في القرآن. هكذا قال أبوها. جدتها حكت لها عن عفريت جدها يخرج في الليل من القبر. يمشي فوق الأرض بلا قدمين ولا ساقين، ولا أي شيء يمكن أن تراه العين. يتقمص جسد القطة أحيانا، ويرقد أمام باب المرحاض أو «بيت الأدب» كسا تسميه جدتها. يخلع جسد القطة ويرتدي جسد فأر صغير أو سحلية، أو يظل كما كان روحا بلا جسد، ويمكنه أن يدخل من تحت عقب الباب أو شق النافذة.
كانت تخاف من العفاريت وأرواح الجان. تنهض من السرير في الليل وتحكم إغلاق النافذة بالترباس. تسد الشق بين الجدار والنافذة بخرقة قديمة أو ورقة تقطعها من كراسة المدرسة. تلف نفسها باللحاف من الرأس إلى القدم، لا تترك ثغرة واحدة يمكن أن ينفذ منها العفريت، وتضم ركبتيها. تحكم إغلاق فخذيها فلا يمكن لأحد من الإنس أو الجن أن يفتحهما.
أمام المرآة تحملق في وجهها الداكن السمرة. جسمها النحيف داخل الثوب الأبيض، والمرأة الأخرى مرسومة فوق الجدار داخل ثوب أسود. ظهرها محني كظهر جدتها. تحرك رأسها بعيدا عن المرآة وتمشي إلى الوراء خطوة، فإذا بالظل المرسوم على الحائط يمشي خطوة إلى الوراء. أتكون هي وليست المرأة الأخرى؟ تمتمت بآية وعادت تنظر في المرآة. فوق صدرها وسام الشرف والوطنية من الدرجة الأولى، قرص ذهبي مشبوك بدبوس، خلعته من فوق الثوب وأرقدته في صندوقه المبطن بالجوخ الأخضر. ربتت عليه ووضعته داخل الدرج. بدأت تخلع ثوبها. سقط إلى الأرض وتكور عند قدميها. لمحت نهديها في المرآة فأخفتهما بيديها الاثنتين. حوطت كتفيها بشال كبير أبيض، وابتلعت رشفتين من كوب الماء. ريقها ناشف والدقات تحت ضلوعها تتصاعد. شيء مدفون في جسدها يفزعها. شيء محبوس لا تعرفه، وصوت لا يشبه أصوات البشر يهمس في أذنها: إبليس يوسوس؟
سارت إلى النافذة تطل على السماء. سوداء قاتمة بلا قمر ولا نجوم، إلا نجمة واحدة كانت جدتها تغني لها، يا زهرة يا أم الكون. رءوس الأشجار تتحرك في الظلمة كالأرواح الشريرة.
رأته خلف جذع الشجرة المقطوع، جالسا داخل جلبابه الأبيض، رأسه ملفوف بالعمامة على شكل القمع. أو طرطور أبيض تعلوه ريشة الديك أو الطاووس. رأسه مرفوع نحو السماء، عيناه تحملقان في الفراغ، شفتاه تنفتحان وتنغلقان، يتمتم بآية أو يكلم نفسه.
لمحها في النافذة فاختفى وراء الشجرة. تكور حول نفسه كالقنفذ. كان يخاف منها أكثر مما يخاف من المدير، فهي امرأة وفي أعماقه خوف دفين من النساء. انحشر رأسه بين عظمتي الحوض في جسد أمه، ضغطت عليه بعظمتي الفخذ، كاد يموت قبل أن يولد. أدرك أنها لم تكن تريده حيا، ولم تكن تطيق النظر إلى أرنبة أنفه، تذكرها بأبيه، وهي الرئيسة. في أعماقه خوف من الرؤساء، عاد أبوه يوما شاحب اللون. رقد في السرير يهذي بالحمى. سمعه في الليل يلهث بكلمة واحدة. الرئيس، وفي الصباح قبل الأذان مات.
Halaman tidak diketahui