1
وأكبر الظن أن الشعراء الإسلاميين لم يعرفوه؛ لأنهم لم يرثوه عن الفحول الجاهليين، ولأنهم لم يشهدوا حياة متحضرة مترفة كالتي عرفها شعراء الإسكندرية وشعراء روما، وإنما عرفوا حياة قد اتصلت بالحضارة ولكنها لم تبرأ من البداوة، وقد حفظت تراثا قديما ضخما ومذهبا في الشعر مألوفا، أخص ما يمتاز به طول النفس؛ حتى يؤدي الشاعر ما يحتاج إلى تأديته في أناة ومهل، لا تمتاز بالقصر ولا بالاختصار.
فلما كان العصر الثاني من عصور الحضارة الإسلامية، أزهر في العراق هذا الأدب العباسي الجديد، وظهر هذا الفن في الأدب العربي قويا خصبا مختلفا ألوانه في البصرة والكوفة وبغداد، ولكن حياته لم تطل، وإنما اقتضت ظروف السياسة والأدب أن يعدل الشعراء الفحول عنه عدولا يوشك أن يكون تاما، وأن يستخفي به بعض الشعراء وبعض الكتاب، بل بعض الذين لا تعرف لهم سابقة في الشعر ولا في النثر، لأسباب قد أبينها في غير هذا الحديث.
ثم كانت عصور الضعف الأدبي، فذهب هذا الفن من فنون القول فيما ذهب، واستؤنفت في عصرنا الحديث حياة أدبية تقليدية عني فيها أدباؤنا بعمود الشعر، ولم يخالفوا عن سنة الفحول من الجاهليين والإسلاميين والمحدثين، فلم يحفلوا بهذا الفن الذي لم يزدهر في تاريخ الشعر العربي إلا وقتا قصيرا، وقد نقلت الآداب اليونانية واللاتينية إلى اللغات الأوروبية في العصر الحديث، فقلد الشعراء الأوروبيون في هذا الفن كما قلدوا في غيره من الفنون، ثم ابتكروا فيه كما ابتكروا في غيره من الفنون، حتى أغنوا آدابهم منه بألوان رائعة، ولكن النهضة الشعرية التي دفع الأوروبيون إليها منذ أواخر القرن الثامن عشر، صرفتهم عنه إلى مذاهب أخرى من الشعر صرفا يوشك أن يكون تاما.
فأنت ترى من هذه الخلاصة القصيرة القاصرة أننا بإزاء فن من فنون الشعر عرفته الآداب الكبرى القديمة والحديثة، وسبق إليه اليونان كما سبقوا إلى غيره من فنون الشعر والنثر. فإذا كان في هذا اللون الذي يعرض عليك في هذا الكتاب من ألوان الكلام شيء جديد، فهو أنه يعرض عليك نثرا لا شعرا؛ لأن الذي يقدم إليك هذا الكتاب لم يتح له قرض الشعر من ناحية، ولأنه كغيره من الكتاب القدماء في الأدب العربي لا يكره أن يزاحم الشعراء على فنون الشعر، وأن يوسع ميدان النثر على حسابهم بين حين وحين. وقديما طرق الكتاب في البصرة وبغداد وغيرهما من الحواضر الإسلامية فنونا كان الشعراء يحتكرونها لأنفسهم، فلم يمنعهم ذلك من أن يجيدوا التقليد، ثم لم يمنعهم ذلك من أن يجيدوا الابتكار، ثم لم يمنعهم ذلك من أن يكونوا أئمة يذهب الشعراء في الشعر مذهبهم في النثر، وما أظن أن حل المنظوم ونظم المنثور يدلان على شيء غير هذا الذي أشرت إليه.
ولكن من حقك أن تسألني عن هذا الفن الغريب الذي أطلت القول في تاريخه دون أن أبين لك حقيقته، وأعرض عليك خصائصه، وأفرق لك بينه وبين غيره من فنون الشعر، وليس المهم هو أني أحسنت ابتغاء الوسيلة إلى نفسك أو لم أحسنه، حين بدأت بهذا الكلام الكثير عن فن لم أبين لك عن حقيقته ولا عن خصائصه، وإنما المهم هو أن أكشف لك عن هذه الحقيقة، وأعرض عليك هذه الخصائص؛ لنستطيع أن نمضي معا على شيء من البصيرة والثقة فيما نستأنف من القول.
ويجب أن أعترف بأني لا أعرف لهذا الفن من الشعر في لغتنا العربية اسما واضحا متفقا عليه، وإنما أعرف له اسمه الأوروبي؛ فقد سماه اليونانيون واللاتينيون «إبيجراما» أي نقشا، واشتقوا هذا الاسم اشتقاقا يسيرا قريبا من أن هذا الفن قد نشأ منقوشا على الأحجار، فقد كان القدماء ينقشون على قبور الموتى، وفي معابد الآلهة، وعلى التماثيل والآنية والأداة؛ البيت أو الأبيات من الشعر، يؤدون فيها غرضا قريبا أول الأمر، ثم أخذ هذا الفن يعظم ويتعقد أمره، حتى نأى عن الأحجار، واستطاع أن يعيش في الذاكرة وعلى أطراف الألسنة، ثم استطاع أن يعيش على أسلات الأقلام وفي بطون الكتب والدواوين. وقد أطلق اليونانيون واللاتينيون كلمة «إبيجراما» أول الأمر على هذا الشعر القصير الذي كان ينقش على الأحجار، ثم على كل شعر قصير، ثم على الشعر القصير الذي كانت تصور فيه عاطفة من عواطف الحب أو نزعة من نزعات المدح، أو نزغة من نزغات الهجاء، ثم غلب الهجاء على هذا الفن، ولا سيما عند الإسكندريين وشعراء روما، وإن لم يخلص من الغزل والمدح. فلما كان العصر الحديث لم يكن الشعراء الأوروبيون يطلقون هذا الاسم إلا على الشعر القصير الذي يقصد به إلى النقد والهجاء.
أما أدبنا العربي فإنه لم يحفل بأن يلتمس لهذا الفن اسما خاصا، وإنما هو يقسم الشعر من حيث الطول والقصر إلى القصيدة والمقطوعة، وهو يطلق اسم القصيدة على الشعر الذي تتجاوز أبياته السبعة عند بعض النقاد والعشرة عند بعضهم الآخر، ويطلق اسم المقطوعة على الأبيات التي لا تتجاوز السبعة أو العشرة، ومثل هذا يقال في الرجز؛ فالأرجوزة هي التي تزيد على سبعة أبيات أو عشرة أبيات، والمقطوعة هي التي لا تزيد على هذا العدد أو ذاك. وواضح أن كلمة المقطوعة يمكن أن تدل على كل مذهب شعر لم يزد على هذا العدد أو ذاك مهما يكن موضوعه، ومهما يكن مذهب الشاعر فيه؛ فهي لا تدل على هذا المعنى المحدود كما تدل كلمة «إبيجراما» عليه عند اليونانيين واللاتينيين والفرنج، ولكن هذا لا يمنع أن هذا الفن قد وجد في أدبنا العربي وجودا قويا بعيد الأثر عظيم الخطر، على النحو الذي وجد عليه في الإسكندرية وروما وفي الحواضر الأوروبية في العصر الحديث.
وأول ما يمتاز به هذا الفن أنه شعر قصير، فإذا طال فهو قصيدة في الغزل وفي المدح أو الهجاء؛ فالقصر إذن خصلة مقومة لهذا الفن. ثم يمتاز بعد هذا القصر بالتأنق الشديد في اختيار ألفاظه، بحيث ترتفع عن الألفاظ المبتذلة دون أن تبلغ رصانة اللفظ الذي يقصد إليه الشعراء الفحول في القصائد الكبرى، وإنما هو شيء بين ذلك، لا يبتذل حتى يفهمه الناس جميعا فتزهد فيه الخاصة، ولا يرتفع حتى لا يفهمه إلا المثقفون الممتازون والذين يألفون لغة الفحول من الشعراء.
ومصدر ذلك أن هذا الفن إنما ازدهر وعظم خطره في عصور الحضارة المترفة التي تدعو إلى التأنق وتدفع إلى التكلف، وتباعد بين الناس وبين عصور البداوة وآدابها الجزلة التي تبهر وتروع، ولكن ذوقها يختص به المثقفون الممتازون دون هذه العامة التي تحيا حياة مبتذلة وتصورها تصويرا مبتذلا. والواقع أن الشعراء الذين عنوا بهذا الفن عناية خاصة، فوضعوا له أصوله وقوانينه، قد كانوا من شعراء القصور في الإسكندرية وروما وفي كثير من الحواضر الأوروبية، وقد كانوا من الشعراء المتصلين بالقصور اتصالا قويا أو ضعيفا في العصر العباسي الأول. فالشاعر اليوناني المبرز في هذا الفن «كليماك» قد كان شاعر القصر في الإسكندرية أيام بطليموس الثاني، والشاعر اللاتيني المبرز في هذا الفن «مارسيال» قد كان شاعر القصر في روما أيام الإمبراطور «دوميسيانوس»، والشعراء العرب الذين عنوا بهذا الفن في البصرة والكوفة وبغداد قد كانوا يتصلون بقصور الخلفاء والأمراء والوزراء في هذه الحواضر الثلاث من عواصم الإسلام؛ فليس غريبا أن يتأثر هؤلاء الشعراء بهذه الحياة الناعمة المترفة التي تكون في القصور، وليس غريبا أن يلائموا بين ما يختارون لمعانيهم من الألفاظ وبين ما في هذه الحياة المترفة من التأنق والتكلف والامتياز. وليس معنى هذا أن الألفاظ التي تختار لهذا الشعر يجب أن يبعد بها التأنق كل البعد عن الابتذال، أو ينأى بها كل النأي عن جزالة الفحول، وإنما معناه أن الشاعر يجب ألا يلجأ إلى الألفاظ المبتذلة المسرفة في الابتذال، أو الرصينة المغرقة في الرصانة، إلا حين يدعوه الفن إلى ذلك ويضطره إليه اضطرارا.
Halaman tidak diketahui