سوى ما نفى عنه الرداء المحبر
وأعجبها من عيشها ظل غرفة
وريان ملتف الحدائق أخضر
فأي المذهبين تختارين؟ مذهب نعم هذه التي أنكرت الشاعر، وجعلت تسأل عنه في سخرية يمازجها العطف، أم مذهب أسماء التي عرفته وجعلت تحدث عنه في عطف يمازجه الإعجاب؟ وإني لمسرف حين ألقي عليك هذه الأسئلة، وأخيرك بين هذين المذهبين؛ فإني لم أسمع منك منذ ساعة إلا إنكارا لصاحبنا هذا المسكين، ونعيا عليه، ترينه كثير الكلام وقد كان كثير الصمت، وترينه كثير الحركة وقد كان صاحب رزانة ووقار، وترينه مقصرا في ذات الصديق وقد كان من أشد الناس وفاء للصديق، وترينه مستكبرا مستعليا وقد كان متواضعا غاليا في التواضع، وترينه يقول غير الحق وقد كان لا يؤثر على الحق شيئا، وترينه مداورا مناورا وقد كان أبغض الناس للمداورة، وأزهدهم في المناورة، وأحرصهم على أن يسلك إلى ما يريد طريقا مستقيمة غير منحرفة، ومستوية غير ملتوية، وواضحة لا يحتاج سالكها إلى الهدى والإعلام، وترينه حذرا هيابا ومتحفظا محتاطا وقد كان جريئا مقداما، لا يخاف شيئا ولا يخاف أحدا، ولا يعدل عن الصراحة الجلية إلى الإشارة الغامضة أو التلميح الذي يلبس فيه الحق بالباطل، والصواب بالخطأ، والصحيح بالمحال.
وقد كنت تعرفين وجهه مشرقا صافي الإشراق مبتهجا نقي الابتهاج مبتسما حلو الابتسام، فأصبحت ترين وجهه مظلما تمام الإظلام تغشاه بين حين وحين سحابة رقيقة ضئيلة من إشراق طارئ لا يثبت أن تتمحى آيته، ويعفي الإظلام على آثاره، وأصبحت ترين في عينيه حزنا ملحا حالكا يصور نفسا مكلومة حزينة كأنما يغمرها ندم متصل لا تكاد تخلص منه إلا لتعود إليه.
وأصبحت ترين على ثغره ابتسامة تمر سريعة بين حين وحين تحاول أن تثبت فلا تستطيع، كأنما وكل بها من أعماق الضمير حرس يأبون عليها أن تثبت أو تستقر، وقد ترين على ثغره ابتسامة تقيم فتطيل الإقامة، ولكنها ابتسامة شفافة لا تشف عن نفس مبتهجة أو قلب مطمئن أو ضمير راض، وإنما تشف عن كآبة وسأم وقلق، هي ابتسامة مجلوبة قد تعلم صاحبنا أن يضعها على ثغره، وأن ينزعها عنه كما يضع صاحب العمامة أو الطربوش عمامته أو طربوشه على رأسه، متى شاء وينزعهما متى شاء، ترين أشياء كثيرة تنكريها؛ لأنك لم تعهديها من قبل، وتلتمسين أشياء كثيرة فلا تجدينها، وقد كنت لا ترين غيرها من قبل، وأنت من أجل ذلك تنكرين فتسرفين في الإنكار، وتلومين فتغرقين في اللوم، وليست إلى جانبك أسماء توضح لك الغامض، وتجلو لك الخفي، وتقص عليك من أمر صاحبنا ما تجهلين، والإنسان قد يتغير كما يقول عمر بن أبي ربيعة.
وما أكثر الأشياء التي تغير الناس فتحولهم عن العهد، وتنقلهم من طور إلى طور، وتمحو منهم خصالا كان الأصدقاء يعرفونها ويألفونها ويكلفون بها، وتمحو مكانها خصالا أخرى ليس للأصدقاء بها عهد، وليس من شأنها أن تحسن في نفس الصديق، وقد نبت عين نعم عن عمر؛ لأنها:
رأت رجلا جواب أرض تقاذفت
به فلوات فهو أشعث أغبر
قد أكثر السفر وألح فيه، يسري في الليل ويهجر في النهار، فأدركه ما يدرك أمثاله من الجهد والشعث، وجعلت أسماء تبين ذلك لصاحبتها في عطف وإعجاب، أما صاحبنا فلم يسر في الليل، ولم يهجر في النهار، ولم يدركه ما يدرك المسافرين من الجهد والشعث، وإنما أدركه شيء آخر هو الذي تسألين عنه فلا تهتدين إليه، وكيف تعرفينه أو تهتدين إليه وأنت مشغولة بحياته هذه الناعمة في قصرك هذا الأنيق، ومن حوله جنته هذه ذات الأشجار الباسقة، والأغصان المتكاثفة، وذات الزهر النضر، والعشب الجميل، ومع ذلك فلصاحبنا قصة رائعة شائقة لو عرفتها لرحمته وعطفت عليه، وله حديث رائع لو سمعته لمنحته شيئا غير قليل من الرثاء والإشفاق، وستسألينني من غير شك أن أقص عليك قصته، وأنبئك بحديثه، فأنت كغيرك من السيدات تمتازين بهذه الخصال التي تملأ القلوب لكن حبا، ومنكن خوفا، وبكن إعجابا. فيك رحمة لا حد لها، وفيك قسوة لا حد لها، وفيك رغبة في الاستطلاع لا تعرف لنفسها حدا تنتهي إليه، ولست أرى بأسا من أن أقص عليك القصص، وأنبئك بالحديث، ولكني أخشى ألا تصدقي ما سألقي إليك من قول.
Halaman tidak diketahui