قلت لمحدثي، وكان طبيبا بالأعصاب: أتريد أن تقول: إن من الخير أن يحسن الناس اختيار ما يقرءون من الكتب، فإن القراءة التي يمضي فيها أصحابها على غير اختيار سابق لما يلائم أعصابهم وأمزجتهم، قد تنهي بهم إلى شر عظيم. قال محدثي: هيهات، وكيف السبيل إلى تنظيم القراءة للرجال العاقلين، وكيف السبيل إلى أن يعرف الناس ما يلائمهم وما لا يلائمهم مما يقرءون؟ هيهات لم أرد إلى هذا، ولا يمكن أن أريد إنما أحببت أن أبين لك أن قلب الإنسان غريب يقسو أحيانا فإذا هو كالحجارة أو أشد قسوة، ويلين أحيانا فإذا هو كهذه الأرض الرخوة التي امتلأت ماء لا تكاد تمس حتى تنفجر منها العيون والينابيع، وقلب صاحبنا هذا قد قسا فكان كالحجارة أو أشد قسوة، فأتى ما أتى من الشر، ولان فكان كهذه الأرض التي امتلأت ماء، مسها أبو العلاء بخاطره هذا الغريب، فتفجر منها هذا الينبوع الذي نستطيع أن نسميه: ينبوع الندم.
وأطرق محدثي الطبيب ساعة، ثم رفع رأسه إلي ضاحكا، وهو يقول: نعم، إن قلب الإنسان لغريب، أتذكر ما قال فيه جوته؛ إنه كبير جدا لا يملؤه شيء، وهش جدا يحطمه أيسر شيء.
غلظة
كان محمد بن عبد الملك الزيات قاسي القلب غليظ الكبد جافي الطبع بليد المزاج، وكان على هذا كله أديبا مرهف الحس نافذ البصيرة رقيق الشعور، صافي الذوق مترف العقل ممتازا فيما يكتب من نثر، وفيما يقرض من شعر، وكانت السياسة وحدها هي التي أتاحت لهذين الشخصين المتناقضين أن يعيشا في جسم واحد، وأن يتسميا باسم واحد، وأن يصدر عنهما مع ذلك من الأعمال والأقوال ما ليس إلى التوفيق بينه سبيل.
فقد كان محمد بن عبد الملك الزيات أقسى الناس في القول والعمل ما تولى أمور الحكم، وكان أرق الناس قولا وعملا ما فرغ لحياته الخاصة، وقد ذهبت حياته الخاصة مع ما يذهب من حياة الناس، وبقيت من حياته العامة آثار تصور نفسه البشعة، وقلبه القاسي، وطبعه الجافي، وعنفه الذي لم يكد تاريخ المسلمين يعرف له نظيرا.
وكان محمد بن عبد الملك الزيات يقول فيما كان يقول: إن الرحمة خور في الطبيعة، وكان محمد بن عبد الملك الزيات يقترف فيما كان يقترف من الآثام. أذاق الناس ألوانا من العذاب لم يعرفها قبله عرب ولا عجم، والله عز وجل يعجل الانتقام حينا، ويملي للقساة الجفاة الظالمين أحيانا، وقد عجل الانتقام من محمد بن عبد الملك الزيات، فذاق العذاب الذي أذاقه الناس أيام حكمه، وكان معذبه يقول له:
ذق إنك أنت العزيز الكريم .
ولست أدري لم ذكرت محمد بن عبد الملك الزيات، وقصته هذه البشعة، وسيرته هذه المنكرة، وحكمه هذا البغيض، وقد تغيرت حياة الناس فرقت طباعهم بعد جفوة، ولانت قلوبهم بعد قسوة، ولم يبق بينهم في مصر على الأقل من يقول إن الرحمة خور في الطبيعة، ومن يعذب الناس في تنور قد فرشت أرضه بالمسامير المدببة، وقد امتدت هذه المسامير المدببة في سقفه وجنباته فما يقيم فيه المعذب البائس إلا على هذه المسامير تأخذ لحمه من كل ناحية إن أقام ساكنا أو تحرك في تنوره هذا المنكر البشع.
ليس في مصر شيء من هذا؛ لأننا قد تحضرنا فرقت طباعنا، وصفت أذواقنا، ولانت قلوبنا، وتهذبت نفوسنا، وإذن فما الذي يذكرني بمحمد بن عبد الملك الزيات في القرن الرابع عشر للهجرة، وفي مدينة القاهرة التي هي عاصمة مصر التي قال عنها إسماعيل العظيم رحمه الله: «إنها جزء من أوروبا.»
ذكرني بمحمد بن عبد الملك الزيات في قسوته الغليظة الجافية ما ألاحظه من أن الترف لم يغير من غرائزنا شيئا، وإنما علمها القسوة المترفة، وعلمها الافتنان في العذاب، وعلمها الترف في ألوان الانتقام، فنحن لا نعذب الأجسام، وإنما نعذب النفوس، ونحن لا نلقي الناس في تنور أشرعت فيه المسامير من جميع أقطاره، وإنما نلقي الناس في ألوان من العذاب ليست أقل بشاعة ولا نكرا من هذا التنور الذي ابتكره ذلك الوزير العباسي في القرن الثالث للهجرة، وفي مدينة السلام.
Halaman tidak diketahui