قالت البعوضة: ومن يكون هذا الإنسان؟ - قرد نهض على قدميه. - أويكون النهوض على الأقدام كفيلا له بهذا كله؟ هل تعلمين يا عزيزتي أن هذا الإنسان أحدث صنوف الحيوان عهدا بهذه الأرض؟ - عرفت ذلك من زميلتي منذ دقائق. - إن كانت كائنات الله قد خلقت لينعم بها الإنسان وحده، فمن ذا كان يستمتع بها قبل ظهوره؟
فأجابت الفراشة العجوز في رزانة: قال كاتبهم هذا البليغ: إن ذلك كله صور جاءت قبله لتزخرف له المسرح، إنها حروف تتألف منها الرواية التي يمثلها الإنسان! - ويحه! هل صور الخيال لهذا المغرور أن الله قد زين الطاووس بريشه الجميل ليمتع الإنسان ناظريه، ورقش الأفعى لينظر إليها الإنسان وهي تتلوى وتتحوى في صندوقها الزجاجي في حديقة الحيوان؟ وماذا هو قائل في الجراثيم التي تفتك ببدنه لتعيش؛ تلك الجراثيم التي إن أفلح في نزع واحدة منها مما يسكن في جوفه، باضت له ألوف الألوف من صغارها؟ لو أنصف المسكين لعلم أن الله جلت قدرته أبدع قصيدة الكون العظمى منظومة منغومة، والإنسان بيت من أبياتها، إن سر الوجود ليستعلن في الجرثومة الضئيلة كما يستعلن في الإنسان والقرد والأفعى! إنها أنغام تتسق كلها لتنشئ موسيقى الوجود! وهل يعظم الشاعر ببيت واحد أكثر مما يعظم بقصيدة عامرة بالأبيات والقوافي؟
فقالت الفراشة العجوز: أراكم تعجبون وليس في الأمر ما يدعو إلى العجب؟ لقد ذكرتم أن الإنسان بين صنوف الحيوان طفل وليد، إنه ما يزال يعبث في مهده ويلهو، أفيكون عجيبا من الطفل أن يتشبث بالأشياء ويمسك بها في قبضته صائحا: هذا كله لي، لي وحدي دون سواي؟ فاغفروا له هذه النزعة الصبيانية حتى تعلمه الدهور أنه جزء من كل عظيم.
وهنا قفز البرغوث قفزات لفتت له الأنظار، وقال: حدثوني - نشدتكم الله - ماذا حدا بالإنسان أن يتبجح فيزعم لنفسه ما زعم؟
فأجابت الفراشة المتحمسة: أغراه بذلك ما له من علم وأخلاق؟ وما يدري أنه بعلمه يكمل النقص في غريزته وفطرته، وأن أخلاقه حين تحلم بالمثل الأعلى فهي في أحلامها دون ما يسود ممالك النمل والنحل من أخلاق! إن الحيوان لا يعرف العري والجوع، وأما الإنسان بكل ما له من علم وأخلاق ... آه! وددت لو خرج هذا الكاتب البليغ من لفائفه «الصوفية» فيخوض في برد الليل ساعة فيرى بني جنسه قد ألقاهم البؤس في العراء، حرمتهم الطبيعة الفراء اتكالا على علم الإنسان وأخلاقه، فعجز العلم والأخلاق أن يهيئا لهؤلاء الأشقياء وطاء أو غطاء! وددت لو خرج الكاتب البليغ لحظة من «تصوفه» الذي يدفئه بين جدران داره وفوق حشايا مخدعه ليرى كم من بطون قومه قد باتت خاوية على الطوى؛ ولكنه لن يبارح هذا الغشاء «الصوفي» ليرى الحقيقة «عارية» حتى يخزه في رقاده واخز.
فقال البرغوث وهو يثب في جذل طروب: لكم مني هذا الصنيع؛ والله لأقضن مضجعه هذا المساء، لعل السهاد أن يحفزه على التفكير في هؤلاء الذين ينبتون القمح حتى يملأ الأهراء ثم لا يأكلون، والذين يزرعون القطن حتى تغص به المخازن ثم لا يكتسون؛ والله لأؤرقنه هذا المساء لعله يعيد التفكير في هذا الإنسان الذي يقتل بعضه بعضا بأدوات من العلم، ويهلك بعضه بعضا بنزوات من الأخلاق.
قال ذلك البرغوث وانصرف، وكان الليل قد انتصف، فأطفأت سراجي وأويت إلى مخدعي، وبي إشفاق على صديقي «خلاف» من هذا البرغوث اللعين! •••
خلاف يا صديقي، لا تسرف! أفيكون هذا الإنسان الذي جارت به السبيل وحار الدليل جديرا منك بالإيمان؟
حكمة البوم
تتخذ البومة شعارا للحكمة وبعد النظر؛ تراها مرسومة على الكتب أحيانا ليدل الناشر على ما تحويه كتبه في بطونها من حكمة خالدة؛ وتراها مصورة في إعلان تذيعه الحكومة الإنجليزية في بلادها هذه الأيام، لتحفز شعبها على الادخار، تمثلا - فيما ينطوي عليه الادخار من حكمة - بالبومة التي شهد لها الناس منذ الأزل بصدق النظر.
Halaman tidak diketahui