هنا دقت الساعة دقتها الثالثة عشرة، واتسعت من الرأس المتدلي ثغرة فمه، فإذا هي باب والشفتان مصراعاه، وانقلب اللسان حارسا شد على وسطه حزاما أحمر، وانحنى في احترام يدعوني للدخول.
دخلت لأجدني واقفا أمام بناء فخم ضخم رفيع العماد، ودخلت الدار فكان الذي دخلته حجرة دراسية تحلق في صحنها ثلاثة عشر صبيا وقف في وسطهم معلمهم، على نحو ما تحلقت التوابيت في البهو واستقامت في وسطها شعلة القنديل، ولسبب لا أدريه حدجت بصري في المعلم حينا لا أكاد أتحول عنه، لم تعجبني هيئته، ولم أشهد على وجهه علامات الصقل والتهذيب التي يتركها العلم عادة على وجوه أصحابه؛ كان طربوشه أوسع من رأسه فهبط حتى ارتكز على أذنيه، وغطى جبهته إلا قليلا وكاد يلمس حاجبيه، وكان على صدغيه خليط متنافر من آثار الجدري ومن بقع جلدية مختلفة ألوانها، حلق شاربيه إلا جزءا صغيرا جدا تكوم تحت أنفه كالخنفساء. ثيابه كلها عجائب؛ فبدلته مصنوعة من قماش لم يرد ناسجه أن ينتهي إلى هذا الذي انتهى إليه، وسترته طالت حتى بلغت ركبتيه، فهي سترة ونصف سترة أو هي ثلاثة أرباع الجبة، فلا هي هذه ولا هي تلك، وقميصه لم تنظمه مكواة، وحذاؤه طويل شاحب، وقد علق أحد سرواليه بأعلى فرد من حذاءيه فانحسر عن شيء من ساقه، وكان الطباشير يلون يديه وكميه وصدر سترته، وتناثرت منه بقعة أو بقعتان فوق طربوشه؛ أخذ يبدل الكتاب بين يديه، فيمسكه بيمناه تارة وبيسراه تارة، وكلما صنع ذلك جذب صدر سترته بيده التي أطلق سراحها، ثم وضع يده في جيبه، ثم أخرجها، ثم سعل سعالا خفيفا، ثم استرق إلي نظر المتهيب المرتاب كأنه طير وأنا صائده، ولم أعجب لهذا منه؛ إذ الناس في بلادنا رجلان: صائد ومصيد، وقد يكون الرجل صائدا في موضع، مصيدا في موضع آخر، وقد يكون مصيد اليوم صائد الغد.
يا سبحان الله العلي العظيم! أمن هذا الرجل يستمد هؤلاء الأطفال العلم، ويستقون الأخلاق، ويستوحون أصول الذوق الجميل؟ أي عجب بعد ذلك إن شب هؤلاء الأطفال رجالا وساروا في شارع البحر بثغر الإسكندرية الجميل فأكلوا الخس وقذفوا بأوراقه في طول الشارع وعرضه، لا ترى أبصارهم قبح ما يصنعون؟ أي عجب إن شب هؤلاء الأطفال رجالا فمصوا القصب في عربات الترام وألقوا بالثفل في أرض العربة، لا يدركون في ذلك شيئا يذم ويعاب؟ أي عجب إن شب هؤلاء الأطفال رجالا فلبسوا عمائم وطرابيش وطراطير وطاقيات ولاسات وبدلات وجبات، كأنهم البهلوانات في سوق الأراجيح، ولا تقع أبصارهم من ذلك كله على شيء يخدش الذوق الجميل؟ إن هذا المعلم بين هؤلاء الصبيان هو بعينه ذلك القنديل الضئيل في البهو بين التوابيت، هو أقرب في طبيعته إلى الظلام منه إلى الضياء، هو إلى الجهل والتجهيل أدنى منه إلى العلم والتعليم.
ووقف سيل خواطري حين قال المعلم بصوت خشن غليظ: «اقرأ يا شاطر.»
وقرأ الشاطر: جلس، وقف، أكل، ضرب؛ حتى أكمل على هذا النحو اثنتي عشرة كلمة، فقلت له في لهجة المفتشين - وللمفتشين نغمة خاصة: «تهج الكلمة التالية يا شاطر.»
فنظر الشاطر إلي فإلى الكتاب فإلي مرة أخرى فإلى معلمه فإلى الكتاب، وقال: ب فتحة ب، ت فتحة ت، ك فتحة ك؛ زرع.
هي الدقة الثالثة عشرة التي هي خطأ في ذاتها أولا، ومدعاة إلى الشك في صدق الدقات السوالف ثانيا، وهي ثالثا بمثابة النذير الذي يعلن لك في صوت جهير أن الآلة كلها فاسدة لا مندوحة لها عن إصلاح وتغيير؛ لم يتعلم هذا الصبي علما، ولم يتعلم خلقا، ولم يتعلم شيئا من قواعد الذوق الجميل.
وغادرت حجرة الدراسة من فوري لألتقي مرة أخرى بالحارس الذي شد على وسطه حزاما أحمر، فأدخلني مصعدا وضغط فيه على زر وتركني، فطلع بي المصعد ثلاثة عشر طابقا حتى بلغ بي قمة البناء، وانفتح بابه على مقهى صاخب بالأصوات المتنافرة: طق، طاق، سأ، صأ، سأ، دودو، كشش، طق، طاق، تصفيق وصياح وضرب بأحجار النرد وقهقهة من رجال جلسوا إلى مناضد رصت في ثلاثة صفوف، في كل منها أربع، ثم انفردت المنضدة الثالثة عشرة في ركن وحدها، وجلس إليها رجل في نحو الخامسة والثلاثين، فجلست إلى جانبه وحييته فحيى: ما هذا المكان؟ - ندوة الجامعة. - وأنت من أبنائها؟ - تعني من أبناء الجامعة؟ نعم، تخرجت فيها منذ ثلاثة عشر عاما، تلاميذي هم اليوم طلاب الجامعة. - أية مادة درست؟ - أنا دكتور في التاريخ كانت رسالتي «إسكندرية الإسكندر». - موضوع لطيف. - لم أختره للطفه، إنما اخترته في إثر حادث وقع لي في الإسكندرية؛ كانت لي سيارة جميلة أسوقها، وحدث ذات يوم إذ كنت أصطاف، أن انثنيت بسيارتي من شارع إلى شارع فصدمتني سيارة جاءت من الجهة المقابلة، صدمتني صدمة ينحطم لها الصلب الصليب، فما انخدشت من سيارتي قلامة ظفر، وعجب الناس للمعجزة، ولو عرفوا سر المعجزة ما عجبوا، فقد كان في سيارتي مصحف شريف؛ ويشاء الله أن يجالس والدي في هذه اللحظة عينها وهو في داره رجل كشف الله عنه حجاب الغيب، فصاح: الله أكبر! وسأل والدي: ما الخبر؟ فقال الرجل: كان ابنك بين أنياب الموت فأنقذه من الموت سر من الله.
هنا دقت ساعة الندوة ثلاث عشرة دقة، واستيقظت عند الدقة الثالثة عشرة لأرى أن غرفتي لم تزل في ظلمة من الليل البهيم.
شعر مصبوغ
Halaman tidak diketahui