قال البغل الزعيم لزملائه: ليس الرأي عندي أن نترك القوم يتحكمون في أقدارنا كما شاءت لهم أهواؤهم، وإنهم لعلى ضلال، فقد أراد الله لنا أن نكون بغالا، ولله حكمته فيما أراد، ثم شاء لنا أن نكون مركبا للإنسان وأداة لحمل أثقاله، ولسنا على هذا القضاء المحتوم بثائرين، فالدنيا تبادل وتعاون، نحن نحمله وأثقاله، وهو يعد لنا المأوى وينبت الغذاء؛ لكن الذي لا ينبغي أن نلين له هو هذا الظلم والحيف والإجحاف؛ فما هكذا يكون تقويم البغال، ولو تركناهم في ذلك وشأنهم اضطربت أوضاعنا، فعلا أسفلنا وسفل أعلانا، وقد خلقنا الله درجات بعضها فوق بعض، ومن الجحود بل من الكفر بنعمة الله أن نسوي بين هذه المنازل المختلفات، أو نغير فيها ونبدل؛ فهل أنوب عنكم لدى صاحب الأمر فأحتج لكم، فإما أقام للعدل ميزانه، وإما ثورة منا وعصيان؟
فاجتمع رأي البغال على أن يبايعوا ذلك البغل الزعيم.
تقدم كبير البغال وفي أثره الزملاء، والناس إزاء ذلك كله مفغورة أفواههم من عجب، مفتوحة أعينهم من رعب وخوف؛ فهم يؤمنون بالمعجزات الخوارق التي لا تجري على سنن الطبيعة، على شريطة أن تكون تلك المعجزات رواية تروى، لا حدثا يقع منهم على مرأى ومسمع.
قال البغل الزعيم لصاحب الأمر: لك أن تصنع بنا ما شئت في حدود العدل، وليس عدلا أن يكون هذا أساس التقويم، لقد نزعتم عنا اللجم والسروج، فماذا أبقيتم لنا مما تتم به المفاضلة بين الجيد والرديء؟ فما بغل بغير سرجه ولجامه؟ وفيم هذا الجس في عضلاتنا، وهذا الإرهاق كله في فحص أجسادنا؟ إن ذلك بدع لم نعتده في بلادنا.
ارتعش صاحب الأمر من فرق، وأجاب وقلبه في حلقه فزعا: لست أدري في ذلك بدعا فتلك سبيلنا في التقدير، الشيء عندنا قيمته فيما يصنعه؛ فالطبيب طبيب بمقدار ما يطب للمرضى، لا بسماعته التي يلفها حول عنقه، والحذاء حذاء بما يجيد من صناعة الأحذية لا بالغطاء الجلدي على ركبتيه، والكلب السلوقي ممتاز لما يصنع في حلبة الصيد لا بطوقه البراق، والسيف بتار بحده لا بغمده، فأي عجب في أن يكون البغل بغلا بقوته وسرعته لا بسرجه ولجامه؟
فأجاب كبير البغال: إنكم في هذا البلد تنخدعون بحقائق الأشياء، وإنكم في هذا لعلى ضلال مبين، الشمس في حقيقتها كتلة ضخمة مهلهلة من غاز مشتعل؛ لكنها عند من يعقل قرص صغير مستدير، لأنها تبدو لعينه قرصا صغيرا مستديرا، والقمر في حقيقته جسم معتم؛ لكنه عند من يفهم سراج منير، لأنه يبدو لعينه سراجا منيرا؛ الطبيعة كلها بإنسانها وحيوانها ظواهر ومظاهر، فلماذا تشذ عندكم البغال في تسويمها.
فسأل التاجر: كيف إذن يسوم البغال في بلادكم؟
فقال البغل الزعيم: في بلادنا لا الزبد يذهب جفاء ولا ما ينفع الناس يمكث في الأرض، فليست تخدعنا الحقائق عن إدراك الظواهر، ولا يزيغ اللباب أبصارنا عن رؤية القشور؛ فلنا في تسويم البغال وسائل شتى، أكثرها شيوعا أن تتناسب قيمة البغل مع قيمة راكبه صعودا وهبوطا، فليس البغل يمتطيه الغني في حريره ونضاره، كالبغل يركبه الفقير في هلاهله وأسماله، وليس البغل يختال على صهوته صاحب الحول والطول، كالبغل يعلوه من ليست له سطوة وسلطان؛ وقد تعلو قيمة البغل لأن أباه كان مشدودا إلى عربة أمير أو وزير، فتكتسب العربة هيبة من هيبة الراكب، ويستمد البغل الوالد قيمة من قيمة العربة، ثم يأتي البغل الولد فيزداد قدرا لازدياد قدر أبيه.
ليس هذا المعيار في المفاضلة والتقويم بهين ولا ميسور؛ ففيه من الدقة ما يخفى على غير الخبير؛ إذ قد تغمض الفوارق بين الراكبين أحيانا، حتى ليتعذر على مثلك ومثلي أن يعلم في يقين أي الراكبين أرجح مثقالا، ليكون بغله أعلى منزلة ومقدارا؛ وكم من بغل أخطأ في ذلك الحساب فهوى نجمه وكان يحسبه إلى صعود؛ لهذا نشأت بيننا طائفة من الخبراء مهمتها أن توازن بين أقدار الراكبين ليعتدل بذلك ميزان التسعير بين البغال، وإنك لتدهش أن ترى حساب الخبراء قد يدق ويدق حتى يصبح معادلة جبرية يحتاج فك رموزها إلى مران طويل؛ خذ لذلك مثالا:
أي الراكبين أعز سلطانا؛ راكب سطوته في قومه وسط بين الضعف والقوة لكنها سطوة تدوم وتتصل، أم راكب جبار مكتسح غير أن قوته تظهر آنا وتختفي آنا؛ فلقد رأيت في ذلك بغلين اقتتلا أيهما أقوى سندا وأعز ظهيرا؛ أحدهما يقع راكبه في الناس بين بين ولكن قوته موصولة الحلقات لا تزول، والثاني راكبه يسطع ضوءه ويخبر كمصباح النار في الليلة الظلماء، فإن سطع خطف بريقه الأبصار، ولم يكن هذا الراكب في مجده حين اعترك البغلان؛ قال البغل الأول لزميله: أنا أفحل منك راكبا وأقوى مؤيدا، لأن نفوذا وسطا خير من لا نفوذ؛ فأجاب البغل الثاني قائلا: إن الفردوس المفقود يرجى له يوما أن يعود، ولا يخدعنك الركود القائم؛ فكم من نهوض يأتي بعد ركود؛ وللجبروت الفعال لما يريد - يظهر ويختفي - خير ألف مرة من نفوذ يدوم هينا لينا. ومضى البغلان في الجدل، لم يدريا كيف ينحسم الخلاف بينهما بغير خبير، وقصدا إلى الخبير فأفتاهما بأن الحكم في مثل ذلك الأمر وسيلته العد والحساب، فعلينا أن نعد من زادت قيمته في الأسواق من بغال الصنف الأول، ومن زادت قيمته من بغال الصنف الثاني، والرجحان لما تكون في جانبه الكثرة العددية؛ فإن دلت الأرقام على أن البغال التي ارتفع سعرها بسند من الظهراء الأوساط الدائمين أكثر عددا من التي ارتفع سعرها بسند من الظهراء الأقوياء المتقطعين، كان الحكم للأول، وإن كان العكس فالحكم للثاني؛ وإن لم تخني الذاكرة كان الرجحان في هذه المشكلة للبغل الثاني؛ إذ أثبت الإحصاء أن التيار القوي المتقطع يدفع الطافي دفعات أقوى وأبعد من التيار اللين وإن اتصل، ودع عنك بغلا ليس لظهره راكب، فذلك بين القوم سخرية الساخرين.
Halaman tidak diketahui