همو منعوا ما بين مصر فذي القرى
إلى الشام من حل به وحرام
وتواترت الأنباء في قصة عشقه باقتحامه وقلة مبالاته بأهل عشيقته المترصدين لقتله، وقيل فيما قيل من ذلك أنه استدعاها يوما وعلم أهلها فتجمعوا لمفاجأته، ثم جاءه من ينذره وينبئه بنبأ القوم فاستكبر الهرب، وقال لمنذريه: «والله ما أرهبهم، وإن في كنانتي ثلاثين سهما والله لا أخطأ كل سهم منها رجلا منهم. وهذا سيفي والله ما أنا به رعش اليد ولا جبان الجنان.»
وذكر الهيثم بن عدي فيما رواه صاحب الأغاني: «أن جميلا طال مقامه بالشام ثم قدم وبلغ بثينة خبره فراسلته مع بعض نساء الحي تذكر شوقها إليه ووجدها به وطلبها للحيلة في لقائه، وواعدته لموضع يلتقيان فيه، فسار إليها وحدثها طويلا وأخبرها خبره بعدها. وقد كان أهلها رصدوها، فلما فقدوها تبعها أبوها وأخوها حتى هجما عليهما، فوثب جميل فانتضى سيفه وشد عليهما فاتقياه بالهرب، وناشدته بثينة الله إلا انصرف، وقالت له: إن أقمت فضحتني، ولعل الحي أن يلحقوك. فأبى وقال: أنا مقيم وامضي أنت وليصنعوا ما أحبوا. فلم تزل تناشده حتى انصرف.»
وغير هاتين القصتين كثير يردد ما فيهما من المغامرة والتحدي وقلة المبالاة، وقد تصح هذه القصص جميعا أو يصح بعضها دون سائرها أو لا تكون فيها قصة واحدة صحيحة، ولكن الحقيقة التي قصدنا إلى بيانها تبقى بعد ذلك قائمة في مكانها، وهي أن حب جميل يتطلب مزاجا فيه الجد والفحولة ولو كان «دور تمثيل» على مسرح من مسارح الفنون، فلو أننا تركنا الواقع جانبا، وتخيلنا أن جميلا وعمر ممثلان في رواية مسرحية، يمثلان ما روي لنا من أخبارهما، لما استطعنا أن نخرج جميلا إلى المسرح بغير سيفه، ولا وجدنا من حاجة إلى السيف في دور عمر وصويحباته.
فالمزاج هنا حقيقة فنية وإن لم يكن بالحقيقة الطبيعية، ولا يبعد أن يكون جميل شجاعا مقتحما، كما جاء في بعض أنبائه، إلا أنه على ما نعتقد كان مستطيعا أن «يمثل دوره» في مسرح الحياة بغير حاجة إلى شجاعة أكثر من الشجاعة الظاهرة، التي يتلبس بها الممثل أو تتلبس هي به إلى حين.
فقد كان يقتحم ويعلم أنه آمن، وكان يبقى حيث لا حاجة به إلى البقاء بعد افتضاح الأمر وانطلاق صاحبته؛ لأنه لا يخشى العاقبة إذا أدركه المتعقبون؛ إذ كان أهله أعز من أهل بثينة، وكان طالبوه يضعفون عن حرب قبيلته، ولا يقدرون على الدية إن رضي بها المطالبون بثأره، وهو نفسه قد ذكر ذلك في بعض قصائده:
فليت رجالا فيك قد نذروا دمي
وهموا بقتلي يا بثين لقوني
إذا ما رأوني طالعا من ثنية
Halaman tidak diketahui