Jamica Islamiyya Wa Urubba
الجامعة الإسلامية وأوربا
Genre-genre
هذه هي الأسباب التي تدعو حكومات أوروبا إلى التمويه والتضليل وإيغار صدور الشعوب المسيحية على المسلمين، وتفجير بركانها السياسي في المشرق من حين إلى حين.
أما تظاهر الدول الأوروبية بالعدوان على المسلمين، وتوجه مقاصدهم نحو الشرق وطمعهم في ممالك الإسلام، وتذرعهم بكل وسيلة لمناهضة أهله ومشاكستهم فله تاريخان: قديم وحديث؛ أما القديم فمنبعث عن تعصب ديني قبيح ملوث بأدران الهمجية الأولى، ومنه فظائع جمعيات التفتيش وتمثيل الإسبانيول بمسلمي الأندلس تمثيلا قلما جاء مثله في التاريخ، ومنه الحروب الصليبية التي انكفأ بها الغرب على الشرق الأدنى الإسلامي، وأصلى أهله حربا عوانا مدة تزيد عن جيلين، وليس من قصدنا الكلام على هذا التاريخ؛ لأنه طويل الذيل مثير للشجون، يأنف من ترديده على السمع أبناء هذا العصر، ويأبى من الخوض فيه قلم الحكيم، وإنما نريد أن نلم بشيء من تاريخه الحديث لعلاقته بالتمدن الحاضر واتصاله بمبدأ النهضة الأوروبية الجديدة، التي ابتدأ معها ضعف أعظم دولة إسلامية في الأرض وهي دولة آل عثمان.
إن النهضة الحديثة التي ظهرت في أوروبا تبتدئ من عهد المصلح الديني الشهير «لوثر» الذي قام في ألمانيا في أوائل القرن السادس عشر للمسيح، واشتهرت مقالته بعدم مشروعية الرهبنة والاعتراف وسيادة البابا الدينية، فكانت مقالته هذه أول خطوة خطاها الأوروبيون للتملص من أغلال السلطة الدينية التي استأثر بها «الأكليروس» فاستخضع لإرادته النفوس والأرواح، وحال بينها وبين الترقي إلى متناول المعرفة بمزية الحرية والعلم، نعم إن نور المدنية قد كان ظهر في أوروبا قبل ذلك بقرون في أواخر القرن الثامن للمسيح في عهد شارلمان ملك الفرنسيس، إلا أنه ما لبث أن انطفأ بموت ذلك الرجل العظيم، وكان يلمع من حين إلى آخر لا سيما بعد احتكاك الغرب بالشرق ومخالطة الأوروبيين للمسلمين في الأندلس وفي الحروب الصليبية، إلا أن لمعانه كان من وراء حجب كثيفة أقامها الكهنة وزعماء الرياسة، فلما جاء لوثر بتعاليمه التي من مقتضاها هتك تلك الحجب وتخليص العقول من أسر الخضوع الأعمى لأرباب السلطة الدينية، وسرت مقالته في أوروبا سريان النار في الهشيم، تلقتها العقول بمزيد القبول ، وأعقب هذا الإصلاح الديني الإصلاح السياسي والمدني، وظهرت ثمرات هذا المذهب على أتمها في إنكلترا في أواسط القرن السادس عشر على عهد الملكة «إليصابات»، حيث أصبحت هذه المملكة ملجأ الفارين من اضطهاد الكاثوليك من أرباب الحرف والصنائع النفيسة في أنحاء أوروبا.
والعجيب أن هذا العهد الذي هو عهد الإصلاح والترقي في أوروبا كان أول عهد التدلي فيما يجاور شرقي أوروبا من الممالك الإسلامية وهي المملكة العثمانية، وفي عصر أعظم ملوك العثمانيين شهرة وأشدهم صولة وهو السلطان سليمان القانوني الذي كان معاصرا للوثر مؤسس الإصلاح الديني في الغرب.
منذ اكتشف كولمبوس أميركا في أواخر القرن الخامس عشر دبت روح التنافس بين الدول الأوروبية في استعمار الممالك القاصية فيما وراء البحار، فاشتهر البرتغاليون بأسفارهم البحرية، واكتشاف طريق الهند، واستولوا على كثير من جزر المحيط واتبعهم الإسبانيول والإنكليز، فأسس الإنكليز شركة الهند التجارية في القرن السادس عشر تمهيدا لتملك ذلك القطر الواسع الأكناف والممالك المتنائية الأطراف، وجرى مجراهم الفرنساويون والهولانديون، فكانت ممالك الإسلام في الهند وجزائر آسيا وإفريقيا عرضة لهذه الغارة الأوروبية بعد إذ أخذ الضعف حده من المسلمين وحكوماتهم في تلك الأرجاء، وكانت الدولة العثمانية في شرق أوروبا تكافح دول أوروبا وتذود عن حياض الشرق الأدنى بقوة السيف دون الانتباه إلى قوة العلم التي أخذت بذورها تنبت في أرض الغرب، ولما كان عهد السلطان سليمان الذي ألقى الذعر في نفوس الملوك، وأزعج بسطوته الحكومات الأوروبية عن مطمئن الراحة لا سيما شارلكان إمبراطور ألمانيا وإسبانيا ولويس ملك المجر وفردنياند ملك النمسا، أخذت الدولة العثمانية دورا غير دورها الأول، وهو دور الانحطاط لأسباب: السبب الأول منها ظهور فكرة الإصلاح عند الأمم الأوروبية ودخولها في دور جديد من المدنية بإعطاء العقل حق السلطان المطلق مع وقوف المسلمين في الجانب الآخر وقفة المتفرج المؤذنة بصعود أولئك إلى أوج المجد والقوة، وهبوط هؤلاء إلى حضيض المهانة والضعف، والسبب الثاني منح السلطان سليمان بعض الامتيازات القنصلية لجمهوريتي جنوى والبنادقة ولفرنسيس الأول ملك فرنسا، والثالث: ويشترك به غيره ممن سبق من سلاطين العثمانيين وهو صرف قوة الدولة إلى القسم الأوروبي مما يلي الأستانة، وإضعاف قوتها في إخضاع شعوب لم يكن منهم في مستقبل الدولة إلا الضرر وإيجاد العقبات في سبيل تقدم الدولة في أنحاء أخرى؛ لإشغال قسم كبير من جندها في توطيد دعائم الأمن في تلك الولايات وإخماد نيران الثورات المتوالية التي كان يضرمها إليها المسيحيون من حين لآخر إلى هذا اليوم.
أما امتيازات القناصل فإنها كانت الآفة الكبرى والوسيلة العظمى التي توسل بها الدول إلى إرهاق الدولة، لا سيما بما استزدنه بعد عهد السلطان سليمان من المنح والامتيازات الأخرى التي تخول بعض الدول حماية الكنائس في الشرق، وبعبارة أخرى حماية المسيحيين تذرعا بذلك إلى خلق المشاكل التي تمهد لهن السبيل إلى التسلط على ممالك الدولة عند سنوح الفرص الملائمة، ونذكر من هذه المنح والامتيازات ما أعطي لدولة فرنسا سنة 1740 من حق حماية جميع قسس الكاثوليك في المملكة العثمانية.
وبينما الدولة العثمانية تخبط في ديجور الحيرة في دورها هذا؛ أي دور التدلي والانحطاط، وتتسرب إليهما أفاعي الدسائس والامتيازات والدول الأوروبية تقضي لباناتها من الممالك الإسلامية في أقصى الشرق، وتوالي هجماتها على الثغور الإسلامية من إفريقيا الشمالية الغربية كتونس والجزائر وطنجة وسلا والعرائش، سعى أحد الباباوات بتحالف الدول الأوروبية على الدولة العثمانية، فاتحدت كل من النمسا وبولونيا والبندقية والروسيا ورهبنة مالطة وذلك سنة (1094ه) و(1683م) اتحادا سموه الاتحاد المقدس، وهاجم هؤلاء الدول المملكة العثمانية من البر والبحر وأصلوا بلادها حربا تشيب لها الرءوس، وفي غضون ذلك كانت الدولة الروسية تعد بهمة بطرس الأكبر عدوا هائلا للمسلمين يهدد أوروبا العثمانية والقوقاز والتركستان وفارس وكل آسيا الوسطى وأمرائها من المسلمين بسيل جارف يقضي على بقية الممالك التي لم يتيسر للدول الأوروبية الوصول إليها وسلب استقلالها، وأخذ بطرس الأكبر بمناوئة الدولة العلية، وآثار عليها حربا عوانا لم يصادفه فيها التوفيق فحول وجهته إلى جارتها أي دولة الفرس، وانتهز فرصة ضعفها وانقسامها، فتجاوز جبال القفقاس، واكتسح إقليم داغستان وكل الثغور الغربية الواقعة على بحر الخرز ، ووضع وصيته المشهورة التي يوصي بها أخلافه بصرف الهمة إلى القضاء على استقلال التتار في بلاد القريم وتدويخ الممالك التركية والإيرانية، والاتفاق مع بعض الدول الأوروبية على الرضا بذلك، فتبع قياصرة الروس بعد ذلك هذه الوصية على قدر ما وصل إليه جهدهم، فتوفقوا في بعضها ولم يتوفقوا في البعض الآخر، ولما كان عهد الإمبراطورة كاترينا (إلى سنة 1773م) أخذ الروس بدس الدسائس في القريم وإلقاء الشقاق بين الأهالي بعد أن سعوا باستقلال القريم عن تركيا استقلالا تاما في معاهدة قينارجة الشهيرة، حتى توصلوا إلى احتلال القريم وامتلاك سواحل البحر الأسود الشمالية، ثم اتفقت الإمبراطورة كاترينا سنة (1194ه/1780م) مع إمبراطور النمسا يوسف الثاني
3
على اقتسام تركية أوروبا وبعض جزائر البحر الأبيض وإقامة حكومة جديدة في الأستانة كالحكومة البزنطية المنقرضة، وإرضاء دول أوروبا بشيء من هذه القسمة، تنفيذا لوصية الإمبراطور بطرس الكبير، فقدم سفيرا روسيا والنمسا إلى الباب العالي تقريرين يشتمل كل منهما على ثلاثة مواد تتضمن: (أولا) طلب الدولتين لحرية التجارة، وأن تضع النظامات اللازمة والإصلاحات الموافقة لحرية الملاحة، ونقل المحصولات من ثغورها البحرية مراعية في ذلك الأصول والنظامات المعمول بها عند أكثر الدول الأوروبية، (ثانيا) عدم مداخلة الدولة في أمور التتار، واعتبار الخان مستقلا في حكومته، (ثالثا) رفع الجزية المضروبة على الإفلاق والبغدان.
وقد استشعرت الدولة من هذين التقريرين بالنيات الروسية السيئة، وظهر لها أن هناك اتحادا بين الدولتين يراد به محوها من الوجود، فعقدت في الأستانة في محرم سنة (1197ه) مجلسا للمشورة والإيجابة على هذين التقريرين، فرأى المجلس أن الدولتين تريدان التحرش بالدولة واستفزازها للحرب لتعزوا إليها نقض العهود السابقة والمبادئة بالعدوان، فينقضا عليها بالخيل والرجل مع أنهما هما البادئتان بالعدوان، وأن بينهما اتفاقا سريا على مهاجمة الدولة، وقد أخذا لأنفسهما أهبة الحرب مع أن الدولة لم تكن كذلك، فأقر المجلس على أن يجاوبا عن التقريرين جوابا محكما يدافع به رغباتهما الخبيثة ريثما تأخذ الدولة أهبتها للحرب، وأن تباشر من تلك الساعة أمر الاستعداد والتجهز لما عساه يكون بلا توان ولا إهمال ، فأجابت الدولة جوابا خلاصته: أن التقريرين المقدمين من سفيري الدولتين المحبتين قد نظر فيهما، وقدرت الدولة سعي واهتمام الدولتين الحبي بالإصلاح المطلوب حق قدره، وستنظر من الآن في الوجوه التي تشكو منها دولة الروسيا مطبقة أعمالها على العهود السابقة، وأن بادرت الدولة بتقديم هذا الجواب لسفيري الدولتين المتحابتين لتكونا واثقتين بأنها كانت ولا تزال حريصة على السلم والمصافاة.
Halaman tidak diketahui