299

Jami' al-Bayan 'an Ta'wil Ayi al-Qur'an

جامع البيان في تفسير القرآن

وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت

[الحج: 26]. فلما بنيا القواعد فبلغا مكان الركن قال إبراهيم لإسماعيل: يا بني اطلب لي حجرا حسنا أضعه ههنا قال: يا أبت إني كسلان تعب قال: علي بذلك فانطلق فطلب له حجرا فجاءه بحجر، فلم يرضه، فقال: ائتني بحجر أحسن من هذا فانطلق يطلب له حجرا وجاءه جبريل بالحجر الأسود من الهند، وكان أبيض ياقوتة بيضاء مثل الثغامة، وكان آدم هبط به من الجنة فاسود من خطايا الناس، فجاءه إسماعيل بحجر فوجده عند الركن، فقال: يا أبت من جاء بهذا؟ فقال: من هو أنشط منك. فبنياه. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عمرو بن عبد الله بن عتبة، عن عبيد بن عمير الليثي، قال: بلغني أن إبراهيم وإسماعيل هما رفعا قواعد البيت. وقال آخرون: بل رفع قواعد البيت إبراهيم، وكان إسماعيل يناوله الحجارة. ذكر من قال ذلك: حدثنا أحمد بن ثابت الرازي، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، وكثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة، يزيد أحدهما على الآخر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: جاء إبراهيم وإسماعيل يبري نبلا قريبا من زمزم. فلما رآه قام إليه، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد، والولد بالوالد، ثم قال: يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمرك ربك قال: وتعينني؟ قال: وأعينك. قال: فإن الله أمرني أن أبني ههنا بيتا وأشار إلى الكعبة، والكعبة مرتفعة على ما حولها. قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت. قال: فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان: { ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم } حتى دور حول البيت. حدثنا ابن بشار القزاز، قال: ثنا عبيد الله بن عبد المجيد أبو علي الحنفي، قال: ثنا إبراهيم بن نافع قال: سمعت كثير بن كثير يحدث عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: جاء يعني إبراهيم فوجد إسماعيل يصلح نبلا من وراء زمزم، قال إبراهيم: يا إسماعيل إن الله ربك قد أمرني أن أبني له بيتا فقال له إسماعيل: فأطع ربك فيما أمرك فقال له إبراهيم: قد أمرك أن تعينني عليه. قال: إذا أفعل. قال: فقام معه، فجعل إبراهيم يبنيه وإسماعيل يناوله الحجارة، ويقولان: { ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم } فلما ارتفع البنيان وضعف الشيخ عن رفع الحجارة، قام على حجر فهو مقام إبراهيم فجعل يناوله ويقولان: { ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم }. وقال آخرون: بل الذي رفع قواعد البيت إبراهيم وحده وإسماعيل يومئذ طفل صغير.

ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى، قالا: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مصرف، عن علي، قال: لما أمر إبراهيم ببناء البيت، خرج معه إسماعيل وهاجر. قال: فلما قدم مكة رأى على رأسه في موضع البيت مثل الغمامة فيه مثل الرأس، فكلمه فقال: يا إبراهيم ابن على ظلي أو على قدري ولا تزد ولا تنقص فلما بنى خرج وخلف إسماعيل وهاجر، فقالت هاجر: يا إبراهيم إلى من تكلنا؟ قال: إلى الله. قالت: انطلق فإنه لا يضيعنا. قال: فعطش إسماعيل عطشا شديدا. قال: فصعدت هاجر الصفا فنظرت فلم تر شيئا، ثم أتت المروة فنظرت فلم تر شيئا، ثم رجعت إلى الصفا فنظرت فلم تر شيئا، حتى فعلت ذلك سبع مرات فقالت: يا إسماعيل مت حيث لا أراك فأتته وهو يفحص برجله من العطش. فناداها جبريل، فقال لها: من أنت؟ فقالت: أنا هاجر أم ولد إبراهيم. قال: إلى من وكلكما؟ قالت: وكلنا إلى الله. قال: وكلكما إلى كاف. قال: ففحص الأرض بأصبعه فنبعت زمزم، فجعلت تحبس الماء. فقال: دعيه فإنها رواء. حدثنا عباد، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن خالد بن عرعرة أن رجلا قام إلى علي فقال: ألا تخبرني عن البيت؟ أهو أول بيت وضع في الأرض؟ فقال: لا، ولكن هو أول بيت وضع في البركة مقام إبراهيم، ومن دخله كان آمنا، وإن شئت أنبأتك كيف بني إن الله أوحى إلى إبراهيم أن ابن لي بيتا في الأرض، قال: فضاق إبراهيم بذلك ذرعا، فأرسل الله السكينة وهي ريح خجوج، ولها رأسان، فأتبع أحدهما صاحبه حتى انتهت إلى مكة، فتطوت على موضع البيت كتطوي الحجفة، وأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقر السكينة. فبنى إبراهيم وبقي حجر، فذهب الغلام يبغي شيئا، فقال إبراهيم: لا، ابغي حجرا كما آمرك قال: فانطلق الغلام يلتمس له حجرا، فأتاه فوجده قد ركب الحجر الأسود في مكانه فقال: يا أبت من أتاك بهذا الحجر؟ قال: أتاني به من لم يتكل على بنائك جاء به جبريل من السماء. فأتماه. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا سعيد، عن سماك، سمعت خالد بن عرعرة يحدث عن علي بنحوه. حدثنا المثنى، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة وحماد بن سلمة وأبو الأحوص كلهم عن سماك، عن خالد بن عرعرة، عن علي بنحوه. فمن قال: رفع القواعد إبراهيم وإسماعيل، أو قال رفعها إبراهيم وكان إسماعيل يناوله الحجارة. فالصواب في قوله أن يكون المضمر من القول لإبراهيم وإسماعيل، ويكون الكلام حينئذ: { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل } يقولان: { ربنا تقبل منا }.

وقد كان يحتمل على هذا التأويل أن يكون المضمر من القول لإسماعيل خاصة دون إبراهيم، ولإبراهيم خاصة دون إسماعيل لولا ما عليه عامة أهل التأويل من أن المضمر من القول لإبراهيم وإسماعيل جميعا. وأما على التأويل الذي روي عن علي أن إبراهيم هو الذي رفع القواعد دون إسماعيل، فلا يجوز أن يكون المضمر من القول عند ذلك إلا لإسماعيل خاصة. والصواب من القول عندنا في ذلك أن المضمر من القول لإبراهيم وإسماعيل، وأن قواعد البيت رفعها إبراهيم وإسماعيل جميعا وذلك أن إبراهيم وإسماعيل إن كانا هما بنياها ورفعاها فهو ما قلنا، وإن كان إبراهيم تفرد ببنائها، وكان إسماعيل يناوله، فهما أيضا رفعاها لأن رفعها كان بهما من أحدهما البناء من الآخر نقل الحجارة إليها ومعونة وضع الأحجار مواضعها. ولا تمتنع العرب من نسبة البناء إلى من كان بسببه البناء ومعونته. وإنما قلنا ما قلنا من ذلك لإجماع جميع أهل التأويل على أن إسماعيل معني بالخبر الذي أخبر الله عنه وعن أبيه أنهما كانا يقولانه، وذلك قولهما: { ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم } فمعلوم أن إسماعيل لم يكن ليقول ذلك إلا وهو إما رجل كامل، وإما غلام قد فهم مواضع الضر من النفع، ولزمته فرائض الله وأحكامه. وإذا كان في حال بناء أبيه، ما أمره الله ببنائه ورفعه قواعد بيت الله كذلك، فمعلوم أنه لم يكن تاركا معونة أبيه، إما على البناء، وإما على نقل الحجارة. وأي ذلك كان منه فقد دخل في معنى من رفع قواعد البيت، وثبت أن القول المضمر خبر عنه وعن والده إبراهيم عليهما السلام. فتأويل الكلام: { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل } يقولان: ربنا تقبل منا عملنا وطاعتنا إياك وعبادتنا لك في انتهائنا إلى أمرك الذي أمرتنا به في بناء بيتك الذي أمرتنا ببنائه إنك أنت السميع العليم. وفي إخبار الله تعالى ذكره أنهما رفعا القواعد من البيت وهما يقولان: { ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم } دليل واضح على أن بناءهما ذلك لم يكن مسكنا يسكنانه ولا منزلا ينزلانه، بل هو دليل على أنهما بنياه ورفعا قواعده لكل من أراد أن يعبد الله تقربا منهما إلى الله بذلك ولذلك قالا: { ربنا تقبل منا }. ولو كانا بنياه مسكنا لأنفسهما لم يكن لقولهما: { تقبل منا } وجه مفهوم، لأنه كانا يكونان لو كان الأمر كذلك سائلين أن يتقبل منهما ما لا قربة فيه إليه، وليس موضعهما مسألة الله قبول، ما لا قربة إليه فيه. القول في تأويل قوله تعالى: { إنك أنت السميع العليم }. وتأويل قوله: { إنك أنت السميع العليم } إنك أنت السميع دعاءنا ومسألتنا إياك قبول ما سألناك قبوله منا من طاعتك في بناء بيتك الذي أمرتنا ببنائه، العليم بما في ضمائر نفوسنا من الإذعان لك في الطاعة والمصير إلى ما فيه لك الرضا والمحبة، وما نبدي ونخفي من أعمالنا. كما: حدثني القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج: أخبرني أبو كثير، قال: ثنا سعيد بن جبير، عن ابن عباس: { تقبل منا إنك أنت السميع العليم } يقول: تقبل منا إنك سميع الدعاء.

[2.128]

وهذا أيضا خبر من الله تعالى ذكره عن إبراهيم وإسماعيل أنهما كانا يرفعان القواعد من البيت وهما يقولان: { ربنا واجعلنا مسلمين لك } يعنيان بذلك: واجعلنا مستسلمين لأمرك خاضعين لطاعتك، لا نشرك معك في الطاعة أحدا سواك، ولا في العبادة غيرك. وقد دللنا فيما مضى على أن معنى الإسلام الخضوع لله بالطاعة. وأما قوله: { ومن ذريتنا أمة مسلمة لك } فإنهما خصا بذلك بعض الذرية لأن الله تعالى ذكره قد كان أعلم إبراهيم خليله صلى الله عليه وسلم قبل مسألته هذه أن من ذريته من لا ينال عهده لظلمه وفجوره، فخصا بالدعوة بعض ذريتهما. وقد قيل إنهما عنيا بذلك العرب. ذكر من قال ذلك: حدثنا موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي: { ومن ذريتنا أمة مسلمة لك } يعنيان العرب. وهذا قول يدل ظاهر الكتاب على خلافه لأن ظاهره يدل على أنهما دعوا الله أن يجعل من ذريتهما أهل طاعته وولايته والمستجيبين لأمره، وقد كان في ولد إبراهيم العرب وغير العرب، والمستجيب لأمر الله والخاضع له بالطاعة من الفريقين فلا وجه لقول من قال: عنى إبراهيم بدعائه ذلك فريقا من ولده بأعيانهم دون غيرهم إلا التحكم الذي لا يعجز عنه أحد. وأما الأمة في هذا الموضع، فإنه يعني بها الجماعة من الناس، من قول الله:

ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق

[الأعراف: 156]. القول في تأويل قوله تعالى: { وأرنا مناسكنا }. اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأه بعضهم: { وأرنا مناسكنا } بمعنى رؤية العين، أي أظهرها لأعيننا حتى نراها. وذلك قراءة عامة أهل الحجاز والكوفة، وكان بعض من يوجه تأويل ذلك إلى هذا التأويل يسكن الراء من «أرنا»، غير أنه يشمها كسرة. واختلف قائل هذه المقالة وقراء هذه القراءة في تأويل قوله: { مناسكنا } فقال بعضهم: هي مناسك الحج ومعالمه. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: { وأرنا مناسكنا } فأراهما الله مناسكهما الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، والإفاضة من عرفات، والإفاضة من جمع، ورمي الجمار، حتى أكمل الله الدين أو دينه. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: { وأرنا مناسكنا } قال: أرنا نسكنا وحجنا. حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: لما فرغ إبراهيم وإسماعيل من بنيان البيت أمره الله أن ينادي فقال:

وأذن في الناس بالحج

[الحج: 27] فنادى بين أخشبي مكة: يا أيها الناس إن الله يأمركم أن تحجوا بيته. قال: فوقرت في قلب كل مؤمن، فأجابه كل من سمعه من جبل أو شجر أو دابة: لبيك لبيك فأجابوه بالتلبية: لبيك اللهم لبيك وأتاه من أتاه.

Halaman tidak diketahui