Jami' al-Bayan 'an Ta'wil Ayi al-Qur'an
جامع البيان في تفسير القرآن
أظلوم إن مصابكم رجلا
أهدى السلام تحية ظلم
يريد إصابتكم. والشواهد في هذا المعنى تكثر، وفيما ذكرنا كفاية، لمن وفق لفهمه. فإذا كان الأمر على ما وصفنا من إخراج العرب مصادر الأفعال على غير بناء أفعالها كثيرا، وكان تصديرها إياها على مخارج الأسماء موجودا فاشيا، تبين بذلك صواب ما قلنا من التأويل في قول القائل: «بسم الله»، أن معناه في ذلك عند ابتدائه في فعل أو قول: أبدأ بتسمية الله، قبل فعلي، أو قبل قولي. وكذلك معنى قول القائل عند ابتدائه بتلاوة القرآن: «بسم الله الرحمن الرحيم» إنما معناه: أقرأ مبتدئا بتسمية الله، أو أبتدىء قراءتي بتسمية الله فجعل الاسم مكان التسمية، كما جعل الكلام مكان التكليم، والعطاء مكان الإعطاء. وبمثل الذي قلنا من التأويل في ذلك، روي الخبر عن عبد الله بن عباس. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس، قال: أول ما نزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم، قال: يا محمد، قل أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم ثم قال: قل بسم الله الرحمن الرحيم. قال ابن عباس: «بسم الله»، يقول له جبريل: يا محمد اقرأ بذكر الله ربك، وقم واقعد بذكر الله.
وهذا التأويل من ابن عباس ينبىء عن صحة ما قلنا من أنه يراد بقول القائل مفتتحا قراءته: «بسم الله الرحمن الرحيم»: أقرأ بتسمية الله وذكره، وافتتح القراءة بتسمية الله، بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى وفساد قول من زعم أن معنى ذلك من قائله: بالله الرحمن الرحيم في كل شيء، مع أن العباد إنما أمروا أن يبتدئوا عند فواتح أمورهم بتسمية الله لا بالخبر عن عظمته وصفاته، كالذي أمروا به من التسمية على الذبائح والصيد، وعند المطعم والمشرب، وسائر أفعالهم، وكذلك الذي أمروا به من تسميته عند افتتاح تلاوة تنزيل الله وصدور رسائلهم وكتبهم. ولا خلاف بين الجميع من علماء الأمة ، أن قائلا لو قال عند تذكيته بعض بهائم الأنعام: «بالله»، ولم يقل «بسم الله»، أنه مخالف بتركه قيل «بسم الله» ما سن له عند التذكية من القول. وقد علم بذلك أنه لم يرد بقوله «بسم الله»، «بالله» كما قال الزاعم أن اسم الله في قول الله: «بسم الله الرحمن الرحيم»، هو الله لأن ذلك لو كان كما زعم، لوجب أن يكون القائل عند تذكيته ذبيحته «بالله» قائلا ما سن له من القول على الذبيحة. وفي إجماع الجميع على أن قائل ذلك تارك ما سن له من القول على ذبيحته، إذا لم يقل «بسم الله»، دليل واضح على فساد ما ادعى من التأويل في قول القائل «بسم الله» أنه مراد به بالله، وأن اسم الله هو الله. وليس هذا الموضع من مواضع الإكثار في الإبانة عن الاسم، أهو المسمى أم غيره أم هو صفة له؟ فنطيل الكتاب به، وإنما هذا موضع من مواضع الإبانة عن الاسم المضاف إلى الله، أهو اسم أم مصدر بمعنى التسمية؟ فإن قال قائل: فما أنت قائل في بيت لبيد بن ربيعة:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما
ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
فقد تأوله مقدم في العلم بلغة العرب، أنه معني به: ثم السلام عليكما، وأن اسم السلام هو السلام. قيل له: لو جاز ذلك وصح تأويله فيه على ما تأول، لجاز أن يقال: رأيت اسم زيد، وأكلت اسم الطعام، وشربت اسم الشراب. وفي إجماع جميع العرب على إحالة ذلك ما ينبىء عن فساد تأويل من تأول قول لبيد: «ثم اسم السلام عليكما»، أنه أراد: ثم السلام عليكما، وادعائه أن ادخال الاسم في ذلك وإضافته إلى السلام إنما جاز، إذ كان اسم المسمى هو المسمى بعينه. ويسأل القائلون قول من حكينا قوله هذا، فيقال لهم: أتستجيزون في العربية أن يقال أكلت اسم العسل، يعني بذلك أكلت العسل، كما جاز عندكم اسم السلام عليك، وأنتم تريدون السلام عليك؟ فإن قالوا: نعم خرجوا من لسان العرب، وأجازوا في لغتها ما تخطئه جميع العرب في لغتها.
وإن قالوا لا سئلوا الفرق بينهما، فلن يقولوا في أحدهما قولا إلا ألزموا في الآخر مثله. فإن قال لنا قائل: فما معنى قول لبيد هذا عندك؟ قيل له: يحتمل ذلك وجهين، كلاهما غير الذي قاله من حكينا قوله. أحدهما: أن «السلام» اسم من أسماء الله فجائز أن يكون لبيد عنى بقوله: «ثم اسم السلام عليكما»: ثم الزما اسم الله وذكره بعد ذلك، ودعا ذكري والبكاء علي على وجه الإغراء. فرفع الاسم، إذا وأخر الحرف الذي يأتي بمعنى الإغراء. وقد تفعل العرب ذلك إذا أخرت الإغراء وقدمت المغرى به، وإن كانت قد تنصب به وهو مؤخر. ومن ذلك قول الشاعر:
يا أيها المائح دلوي دونكا
إني رأيت الناس يحمدونكا
Halaman tidak diketahui