Jami' al-Bayan 'an Ta'wil Ayi al-Qur'an

al-Tabari d. 310 AH
185

Jami' al-Bayan 'an Ta'wil Ayi al-Qur'an

جامع البيان في تفسير القرآن

فرأينا الله جل وعز قد أخبر عنهم أنه كتب لهم الأرض المقدسة، ولم يخبرنا عنهم أنه ردهم إلى مصر بعد إخراجه إياهم منها، فيجوز لنا أن نقرأ اهبطوا مصر، ونتأوله أنه ردهم إليها. قالوا: فإن احتج محتج بقول الله جل ثناؤه:

فأخرجناهم من جنات وعيون * وكنوز ومقام كريم * كذلك وأورثناها بني إسرائيل

[الشعراء: 57-59] قيل لهم: فإن الله جل ثناؤه إنما أورثهم ذلك فملكهم إياها ولم يردهم إليها، وجعل مساكنهم الشأم. وأما الذين قالوا: إن الله إنما عنى بقوله جل وعز: { اهبطوا مصرا } مصر، فإن من حجتهم التي احتجوا بها الآية التي قال فيها:

فأخرجناهم من جنات وعيون * وكنوز ومقام كريم * كذلك وأورثناها بني إسرائيل

[الشعراء: 57-59] وقوله:

كم تركوا من جنات وعيون * وزروع ومقام كريم * ونعمة كانوا فيها فاكهين * كذلك وأورثناها قوما آخرين

[الدخان: 25-28] قالوا: فأخبر الله جل ثناؤه أنه قد ورثهم ذلك وجعلها لهم، فلم يكونوا يرثونها ثم لا ينتفعون بها. قالوا: ولا يكونون منتفعين بها إلا بمصير بعضهم إليها، وإلا فلا وجه للانتفاع بها إن لم يصيروا أو يصر بعضهم إليها. قالوا: وأخرى أنها في قراءة أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود: «اهبطوا مصر» بغير ألف، قالوا: ففي ذلك الدلالة البينة أنها مصر بعينها. والذي نقول به في ذلك أنه لا دلالة في كتاب الله على الصواب من هذين التأويلين، ولا خبر به عن الرسول صلى الله عليه وسلم يقطع مجيئه العذر، وأهل التأويل متنازعون تأويله. فأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال: إن موسى سأل ربه أن يعطي قومه ما سألوه من نبات الأرض على ما بينه الله جل وعز في كتابه وهم في الأرض تائهون، فاستجاب الله لموسى دعاءه، وأمره أن يهبط بمن معه من قومه قرارا من الأرض التي تنبت لهم ما سأل لهم من ذلك، إذ كان الذي سألوه لا تنبته إلا القرى والأمصار وأنه قد أعطاهم ذلك إذ صاروا إليه، وجائز أن يكون ذلك القرار مصر، وجائز أن يكون الشأم. فأما القراءة فإنها بالألف والتنوين: { اهبطوا مصرا } وهي القرائة التي لا يجوز عندي غيرها لاجتماع خطوط مصاحف المسلمين، واتفاق قراءة القراء على ذلك. ولم يقرأ بترك التنوين فيه وإسقاط الألف منه إلا من لا يجوز الإعتراض به على الحجة فيما جاءت به من القراءة مستفيضا بينها. القول في تأويل قوله تعالى: { وضربت عليهم الذلة والمسكنة }. قال أبو جعفر: يعني بقوله: { وضربت } أي فرضت، ووضعت عليهم الذلة وألزموها من قول القائل: ضرب الإمام الجزية على أهل الذمة، وضرب الرجل على عبده الخراج يعني بذلك وضعه فألزمه إياه، ومن قولهم: ضرب الأمير على الجيش البعث، يراد به ألزمهموه.

وأما الذلة، فهي الفعلة من قول القائل: ذل فلان يذل ذلا وذلة، كالصغرة من صغر الأمر، والقعدة من قعد، والذلة: هي الصغار الذي أمر الله جل ثناؤه عباده المؤمنين أن لا يعطوهم أمانا على القرار على ماهم عليه من كفرهم به وبرسوله إلا أن يبذلوا الجزية عليه لهم، فقال جل وعز:

قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون

[التوبة: 29] كما: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الحسن وقتادة في قوله: { وضربت عليهم الذلة } قالا: يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون. وأما المسكنة، فإنها مصدر المسكين، يقال: ما فيهم أسكن من فلان وما كان مسكينا ولقد تمسكن مسكنة. ومن العرب من يقول: تمسكن تمسكنا. والمسكنة في هذا الموضع مسكنة الفاقة والحاجة، وهي خشوعها وذلها، كما: حدثني به المثنى بن إبراهيم، قال: ثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: { والمسكنة } قال: الفاقة. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قوله: { وضربت عليهم الذلة والمسكنة } قال: الفقر. وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: { وضربت عليهم الذلة والمسكنة } قال هؤلاء يهود بني إسرائيل. قلت له: هم قبط مصر، قال: وما لقبط مصر وهذا؟ لا والله ما هم هم، ولكنهم اليهود يهود بني إسرائيل. فأخبرهم الله جل ثناؤه أنه يبدلهم بالعز ذلا، وبالنعمة بؤسا، وبالرضا عنهم غضبا، جزاء منه لهم على كفرهم بآياته وقتلهم أنبياءه ورسله اعتداء وظلما منهم بغير حق، وعصيانهم له، وخلافا عليه. القول في تأويل قوله تعالى: { وبآءو بغضب من الله }. قال أبو جعفر: يعني بقوله: { وبآءو بغضب من الله } انصرفوا ورجعوا، ولا يقال باءوا إلا موصولا إما بخير وإما بشر، يقال منه: باء فلان بذنبه يبوء به بوءا وبواء. ومنه قول الله عز وجل

Halaman tidak diketahui