Jami' al-Bayan 'an Ta'wil Ayi al-Qur'an
جامع البيان في تفسير القرآن
يعني بذلك: أبلغها رسالتي. فسميت الملائكة ملائكة بالرسالة، لأنها رسل الله بينه وبين أنبيائه ومن أرسلت إليه من عباده. القول في تأويل قوله تعالى: { إني جاعل في الأرض }. اختلف أهل التأويل في قوله: { إني جاعل } ، فقال بعضهم: إني فاعل. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن جرير بن حازم، ومبارك عن الحسن، وأبي بكر، يعني الهذلي عن الحسن وقتادة، قالوا: قال الله للملائكة: { إني جاعل في الأرض خليفة } قال لهم: إني فاعل. وقال آخرون: إني خالق. ذكر من قال ذلك: حدثت عن المنجاب بن الحارث قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، قال: كل شيء في القرآن «جعل» فهو خلق. قال أبو جعفر: والصواب في تأويل قوله: { إني جاعل في الأرض خليفة } أي مستخلف في الأرض خليفة ومصير فيها خلفا، وذلك أشبه بتأويل قول الحسن وقتادة.
وقيل إن الأرض التي ذكرها الله في هذه الآية هي مكة. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عطاء، عن ابن سابط أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" دحيت الأرض من مكة. وكانت الملائكة تطوف بالبيت، فهي أول من طاف به، وهي الأرض التي قال الله: { إني جاعل في الأرض خليفة } ، وكان النبي إذا هلك قومه ونجا هو والصالحون أتى هو ومن معه فعبدوا الله بها حتى يموتوا، فإن قبر نوح وهود وصالح وشعيب بين زمزم والركن والمقام "
القول في تأويل قوله تعالى: { خليفة }. والخليفة الفعلية، من قولك: خلف فلان فلانا في هذا الأمر إذا قام مقامه فيه بعده، كما قال جل ثناؤه:
ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون
[يونس: 14] يعني بذلك: أنه أبدلكم في الأرض منهم فجعلكم خلفاء بعدهم ومن ذلك قيل للسلطان الأعظم: خليفة، لأنه خلف الذي كان قبله، فقام بالأمر مقامه، فكان منه خلفا، يقال منه: خلف الخليفة يخلف خلافة وخليفا، وكان ابن إسحاق يقول بما: حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: { إني جاعل في الأرض خليفة } يقول: ساكنا وعامرا يسكنها ويعمرها خلقا ليس منكم. وليس الذي قال ابن إسحاق في معنى الخليفة بتأويلها، وإن كان الله جل ثناؤه إنما أخبر ملائكته أنه جاعل في الأرض خليفة يسكنها، ولكن معناها ما وصفت قبل. فإن قال لنا قائل: فما الذي كان في الأرض قبل بني آدم لها عامرا فكان بنو آدم بدلا منه وفيها منه خلفا؟ قيل: قد اختلف أهل التأويل في ذلك. فحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: أول من سكن الأرض الجن، فأفسدوا فيها، وسفكوا فيها الدماء، وقتل بعضهم بعضا. قال: فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة، فقتلهم إبليس ومن معه، حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال ثم خلق آدم فأسكنه إياها، فلذلك قال : { إني جاعل في الأرض خليفة }. فعلى هذا القول إني جاعل في الأرض خليفة من الجن يخلفونهم فيها فيسكنونها ويعمرونها. وحدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس في قوله: { إني جاعل في الأرض خليفة } الآية، قال: إن الله خلق الملائكة يوم الأربعاء، وخلق الجن يوم الخميس، وخلق آدم يوم الجمعة، فكفر قوم من الجن، فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم، فكانت الدماء وكان الفساد في الأرض. وقال آخرون في تأويل قوله: { إني جاعل في الأرض خليفة } أي خلفا يخلف بعضهم بعضا، وهم ولد آدم الذين يخلفون أباهم آدم، ويخلف كل قرن منهم القرن الذي سلف قبله.
وهذا قول حكي عن الحسن البصري، ونظير له ما: حدثني به محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا سفيان عن عطاء بن السائب، عن ابن سابط في قوله: { إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك } قال: يعنون به بني آدم. وحدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، قال الله للملائكة: إني أريد أن أخلق في الأرض خلقا، وأجعل فيها خليفة، وليس لله يومئذ خلق إلا الملائكة والأرض ليس فيها خلق. وهذا القول يحتمل ما حكي عن الحسن، ويحتمل أن يكون أراد ابن زيد أن الله أخبر الملائكة أنه جاعل في الأرض خليفة له، يحكم فيها بين خلقه بحكمه، نظير ما: حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أن الله جل ثناؤه قال للملائكة: { إني جاعل في الأرض خليفة } قالوا: ربنا وما يكون ذلك الخليفة؟ قال: يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا. فكان تأويل الآية على هذه الرواية التي ذكرناها عن ابن مسعود وابن عباس : إني جاعل في الأرض خليفة مني يخلفني في الحكم بين خلقي، وذلك الخليفة هو آدم ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه. وأما الإفساد وسفك الدماء بغير حقها فمن غير خلفائه، ومن غير آدم ومن قام مقامه في عباد الله لأنهما أخبرا أن الله جل ثناؤه قال لملائكته إذ سألوه: ما ذاك الخليفة: إنه خليفة يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا. فأضاف الإفساد وسفك الدماء بغير حقها إلى ذرية خليفته دونه وأخرج منه خليفته. وهذا التأويل وإن كان مخالفا في معنى الخليفة ما حكي عن الحسن من وجه، فموافق له من وجه. فأما موافقته إياه فصرف متأوليه إضافة الإفساد في الأرض وسفك الدماء فيها إلى غير الخليفة. وأما مخالفته إياها فإضافتهما الخلافة إلى آدم بمعنى استخلاف الله إياه فيها، وإضافة الحسن الخلافة إلى ولده بمعنى خلافة بعضهم بعضا، وقيام قرن منهم مقام قرن قبلهم، وإضافة الإفساد في الأرض وسفك الدماء إلى الخليفة. والذي دعا المتأولين قوله: { إني جاعل في الأرض خليفة } في التأويل الذي ذكر عن الحسن إلى ما قالوا في ذلك أنهم قالوا إن الملائكة إنما قالت لربها إذ قال لهم ربهم: { إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدمآء } إخبارا منها بذلك عن الخليفة الذي أخبر الله جل ثناؤه أنه جاعله في الأرض لا غيره لأن المحاورة بين الملائكة وبين ربها عنه جرت.
قالوا: فإذا كان ذلك كذلك، وكان الله قد برأ آدم من الإفساد في الأرض وسفك الدماء وطهره من ذلك، علم أن الذي عنى به غيره من ذريته، فثبت أن الخليفة الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء هو غير آدم، وأنهم ولده الذين فعلوا ذلك، وأن معنى الخلافة التي ذكرها الله إنما هي خلافة قرن منهم قرنا غيرهم لما وصفنا. وأغفل قائلو هذه المقالة ومتأولو الآية هذا التأويل سبيل التأويل، وذلك أن الملائكة إذ قال لها ربها: { إني جاعل في الأرض خليفة } لم تضف الإفساد وسفك الدماء في جوابها ربها إلى خليفته في أرضه، بل قالت: { أتجعل فيها من يفسد فيها } ، وغير منكر أن يكون ربها أعلمها أنه يكون لخليفته ذلك ذرية يكون منهم الإفساد وسفك الدماء، فقالت: يا ربنا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟ كما قال ابن مسعود وابن عباس، ومن حكينا ذلك عنه من أهل التأويل. القول في تأويل قوله تعالى: { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدمآء }. قال أبو جعفر: إن قال قائل: وكيف قالت الملائكة لربها إذ أخبرها أنه جاعل في الأرض خليفة: { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدمآء } ولم يكن آدم بعد مخلوقا ولا ذريته، فيعلموا ما يفعلون عيانا؟ أعلمت الغيب فقالت ذلك، أم قالت ما قالت من ذلك ظنا، فذلك شهادة منها بالظن وقول بما لا تعلم، وذلك ليس من صفتها، فما وجه قيلها ذلك لربها؟ قيل: قد قالت العلماء من أهل التأويل في ذلك أقوالا ونحن ذاكرو أقوالهم في ذلك، ثم مخبرون بأصحها برهانا وأوضحها حجة. فروي عن ابن عباس في ذلك ما: حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: كان إبليس من حي من أحياء الملائكة، يقال لهم «الجن» خلقوا من نار السموم من بين الملائكة، قال: وكان اسمه الحرث. قال: وكان خازنا من خزان الجنة. قال: وخلقت الملائكة كلهم من نور غير هذا الحي. قال: وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار، وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذ ألهبت. قال: وخلق الإنسان من طين، فأول من سكن الأرض الجن، فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء، وقتل بعضهم بعضا. قال: فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة، وهم هذا الحي الذين يقال لهم «الجن»، فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال. فلما فعل إبليس ذلك اغتر في نفسه، وقال: قد صنعت شيئا لم يصنعه أحد.
قال: فاطلع الله على ذلك من قلبه، ولم تطلع عليه الملائكة الذين كانوا معه فقال الله للملائكة الذين معه: { إني جاعل في الأرض خليفة } فقالت الملائكة مجيبين له: { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدمآء } كما أفسدت الجن وسفكت الدماء؟ وإنما بعثنا عليهم لذلك. فقال: { إني أعلم ما لا تعلمون } يقول: إني قد اطلعت من قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه من كبره واغتراره، قال: ثم أمر بتربة آدم فرفعت، فخلق الله آدم من طين لازب واللازب: اللزج الصلب من حمأ مسنون منتن. قال: وإنما كان حمأ مسنونا بعد التراب. قال: فخلق منه آدم بيده. قال فمكث أربعين ليلة جسدا ملقى، فكان إبليس يأتيه فيضربه برجله فيصلصل أي فيصوت قال: فهو قول الله:
من صلصال كالفخار
Halaman tidak diketahui