وأراد موسى بن داود الخروج إلى الحج، فقال لأبي دلامة: تأهب حتى تخرج معي في هذا الوجه، وأعطاه عشرة آلاف درهم، وقال له: خلف لعيالك ما يكفيهم واخرج؛ وإنما أراد أن يأنس به في طريقه بحديثه وأشعاره ونوادره.
فلما حضر خروج موسى هرب أبو دلامة إلى سواد الكوفة، فجعل يشرب من خمرها ويتمتع في نزهها، فسأل عنه فأخبروها باستتاره، فطلبه فلم يقدر عليه، وخاف أن يفوته الحج؛ فلما يئس منه قال: دعوه إلى النار وحر سقر وأليم عذابه. فلما شارف القادسية إذا هو بأبي دلامة قد خرج من قرية يريد أخرى، فبصر به. فقال: ائتوني بعدو الله الكذاب، فر من الحق إلى الباطل، ومن الحج إلى حانات الخمارين، قيدوه وألقوه في بعض المحامل. ففعل ذلك به، فلما ولت الإبل، صاح أبو دلامة بأعلى صوته:
يأيها الناس قولوا أجمعين معي ... صلّى الإله على موسى بن داود
كأنّ ديباجتي خدّيه من ذهبٍ ... إذا تشرّف في أثوابه السود
أما أبوك فعين الجود نعرفه ... وأنت أشبه خلق الله بالجود
نبّئت أنّ طريق الحجّ معطشةٌ ... من الطلاء وما شربي بتصريد
والله ما فيّ من خيرٍ فتطلبه ... في المسلمين وما ديني بمحمود
إني أعوذ بداودٍ وتربته ... من أن أحجّ بكرهٍ يابن داود
فقال موسى: ألقوه عن المحمل، فعليه لعنة الله، ودعوه يذهب إلى سقر وحر نارها، فألقوه.
ومضى موسى لوجهه، فما زال أبو دلامة يتمتع بالنزه، ويشرب الخمر حتى أتلف العشرة آلاف رهم، وانصرف موسى من حجه، فدخل أبو دلامة يهنئه، فلما رآه قال: أتدري ما فاتك من الخير؟ فقال: والله ما فاتني خير ليلًا ولا نهارًا يريد الشرب والقصف فضحك ووصله.
ودخل أبو دلامة على المهدي وعنده عيسى بن موسى، والعباس بن محمد، وناس من بني هاشم، فقال المهدي: يا أبا دلامة. قال: لبيك يا أمير المؤمنين. قال: اهج من شئت ممن ضمه هذا المجلس ولك الجائزة؛ فنظر في القوم فلم ير إلا شريفًا قريبًا من المهدي، فقال: أنا أحد من في المجلس ثم أنشده:
ألا أبلغ إليك أبا دلامه ... فليس من الكرام ولا كرامه
إذا لبس العمامة قلت قردٌ ... وخنزيرٌ إذا نزع العمامه
فإن تك قد أصبت نعيم دنيا ... فلا تفرح فقد دنت القيامه
قال: فضحك المهدي، وسر القوم، إذ لم يسود بأحد منهم، فقال له المهدي: تمن. فقال: يا أمير المؤمنين؛ تأمر لي بكلب صيد، فقال: يابن الفاعلة؛ وما تصنع به؟ فقال: إن كانت الحاجة لي فليس لك أن تعرض فيها. فقال: صدقت أعطوه كلبًا، فأعطي. فقال: يا أمير المؤمنين: لا بد لهذا الكلب من كلاب. فأمر له بغلام مملوك، فقال: يا أمير المؤمنين، أو يتهيأ لي أن أصيد راجلًا؟ فقال: أعطوه دابةً، فقال: ومن يسوس الدابة؟ فقال: أعطوه غلامًا سائسًا. فقال: ومن ينحر الصيد ويصلحه؟ فقال: أعطوه طباخًا. فقال: ومن يأويهم؟ فقال: أعطوه دارًا، فبكى أبو دلامة وقال: ومن يمون هؤلاء كلهم؟ فقال: يكتب له إلى البصرة بمائة جريب عامرة، ومائتي جريب غامرة. فقال: وما الغامرة؟ قال: التي لا نبات فيها. قال: فأنا أعطيك مائتي ألف جريب من فيافي بني أسد، فضحك وقال: ما تريد؟ قال: بيت المال. قال: على أن أخرج المال منه. قال: فإذًا يصير غامرًا، فاستفرغ ضاحكًا وقال: اذهب فقد جعلناها لك كلها عامرة. فقال: يا أمير المؤمنين؛ ائذن لي أن أقبل يدك، قال: أما هذه فدعا. فقال: والله ما تمنع عيالي شيئًا أهون عليهم من هذا، فناوله يده فقبلها. وقد تقدم له بعض هذا حكاية مع المنصور، والرواة يختلفون، وهو أدب لا يخطب أبكاره بالنسب.
وخرج أبو دلامة مع المهدي وعلي بن سليمان إلى الصيد، فعن لهم ظبي؛ فرماه المهدي فأصابه، ورمى علي بن سليمان فأصاب كلب الصيد، فضحك المهدي وقال لأبي دلامة: قل في هذا شيئًا فأنشد:
قد رمى المهديّ ظبيًا ... شكّ بالسهم فؤاده
وعليّ بن سليما ... ن رمى كلبًا فصاده
فهنيئًا لهما ك ... لّ امرىءٍ يأكل زاده
فاستفرغ المهدي ضحكًا وأمر له بجائزة.
1 / 42