قال الجاحظ: وحدثني الحسن بن سهل قال: قال لي المأمون: أي كتب العرب أنبل؟ قال قلت المبتدأ؟ قال: لا. قلت: فالتاريخ؟ قال: لا، فسكت، فقال: تفسير القرآن، لأنه لا شبه له، وتفسيره لا شبه له. ثم قال: أي كتب العجم أنبل؟ فاستعرضتها فقلت: هذا كتاب ذوبان، وقد كتبت بعضه، فقال: إيتني به معجلًا. فوجهت في حمله، فوافاني الرسول وقد نهض يريد الصلاة. فقال: فلما رآني مقبلًا والكتاب معي انحرف عن القبلة، وأخذ الكتاب وجعل ينظر فيه، فإذا فرغ من باب قال: لا إله إلا الله، فلما طال ذلك عليه قعد وجعل يقرأ؛ فقلت: الصلاة تفوت وهذا لا يفوت. قال: صدقت غير أني أخاف السهو في الصلاة لاشتغال قلبي بلذيذ ما في هذا الكتاب، وما أجد للسهو حائلًا غير ذكر الموت فجعل يقرأ: " إنك ميت وإنهم ميتون ". ثم وضع الكتاب. وقام فكبر؛ فلما فرغ من صلاته نظر فيه حتى أتى على آخره. ثم قال: أين تمامه؟ قلت: عند ذوبان لم يدفعه إلي. فقال: لولا أن العهد حبل أحد طرفيه بيد الله والآخر بأيدينا لأخذته منه، فهذا والله الكلام، لا ما نحن فيه من لي ألسنتنا في فجوات أشداقنا.
من الحكم
قال الحسن بن سهل: قرأت في هذا الكتاب: ثلاث لا يصلح فسادهن بشيء من الحيل: العداوة بين الأقارب، وتحاسد الأكفاء، والركاكة في العقول. وثلاث لا يستفسد صلاحهن بنوع من المكر: العبادة في العلماء، والقنوع في المستبصرين، والسخاء في ذوي الأخطار. وثلاث لا يشبع منهن: الحياة، والعافية، والمال. وثلاث تبطل مع ثلاث: الشدة مع الحيلة، والعجلة مع التأني، والإسراف مع القصد.
وهذا كما قال الخضر بن علي: رأيت بعدن حجرًا مكتوبًا عليه بالحميرية: يأيها الشديد؛ احذر الحيلة، ويأيها العجول؛ احذر التأني، ويأيها المحارب؛ لا تأمن من التفكر في العاقبة، ويأيها الرائد موجودًا لا تقطع أملك عن بلوغ مثله.
أما قوله للمحارب، فقد قال علي بن أبي طالب رضوان الله عليه: من فكر في العواقب لم يشجع.
شجاعة وحسن بلاء
وقال سعد بن ناشب الغنوي:
عليكم بداري فاهدموها فإنّها ... تراث كريم لا يخاف العواقبا
إذا همّ ألقى بين عينيه همّه ... ونكّب عن ذكر العواقب جانبا
ولم يستشر في رأيه غير نفسه ... ولم يرض إلاّ قائم السيف صاحبا
وقد قال معاوية ﵁: هممت مرات كثيرةً بصفين أن أخيس فلم يردني إلا أبيات ابن الإطنابة:
أبت لي عفّتي وأبى بلائي ... وأخذي المجد بالثمن الربيح
وقولي كلّما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي
وإقدامي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح
لأدفع من مآثر صالحاتٍ ... وأمنع بعد عن نسبٍ صريح
وابن الإطنابة هو عمرو بن عامر بن زيد مناة بن مالك بن الأغر الخزرجي، وهو فارس مشهور معروف، والإطنابة أمه.
وقد أحسن قطري بن الفجاءة في هذا المعنى حيث قال:
وقولي كلّما جاشت لنفسي ... من الأعداء ويحك لا تراعي
فإنك لو سألت مزيد يومٍ ... أبى الأجل المقدّر أن تطاعي
وقال بعض الغزاة: فتحنا حصنًا من بلاد الروم، فرأينا فيه صورة أسد من حجر عليه مكتوب: الحيلة خير من الشدة، والتأني أفضل من العجلة، والجهل في الحرب أحزم من العقل، والتفكر في العاقبة من أمارة الجزع.
ووجه ملك الروم إلى الرشيد بثلاثة أسياف مع هدايا كثيرة، على سيف منها مكتوب: أيها المقاتل؛ احمل تغنم، ولا تفكر في العاقبة تهزم. وعلى الثاني: التأني فيما لا تخاف عليه الفوت، أفضل من العجلة إلى إدراك الأمل. وعلى الآخر: إن لم تصل ضربة سيفك، فصلها بإلقاء خوفك.
وهذا كقول كعب بن مالك الأنصاري:
نصل السيوف إذا قصرن بخطونا ... قدمًا ونحلقها إذا لم تلحق
وكقول نهشل بن حري:
إذا الكماة تأبّوا أن ينالهم ... حدّ السيوف وصلناها بأيدينا
وأعطى بعض الأمراء سيفًا لرجل فقال له: صله بخطواتك. فقال له: الصبر أقرب من تلك الخطوة.
وأعطى آخر لرجل سيفًا فسأله بدله، وقال: هو غير ماض. قال: خذه، فالسيوف مأمورة، قال: فهذا أمر ألا يقطع.
1 / 37