فأتاني أبو السائب المخزومي فقلت له بعد الترحيب والبشر: ألك حاجة؟ قال: نعم! أبيات لعروة بلغني أنك سمعته ينشدها؟ فلما بلغت إلى قوله: فدنا وقال لعلها معذورة، طرب وصاح، وقال: هذا والله الصادق العهد، الدائم الود، لا الذي يقول:
إن كان أهلك يمنعونك رغبةً ... عني فأهلي بي أضنّ وأرغب
أوليس لي قربى إذا أقصيتني ... حدبوا عليّ وعندي المستعتب
فلئن دنوت لأدنونّ بعفّةٍ ... ولئن نأيت لما ورائي أرحب
يأبى وعيشك أن أكون مقصّرًا ... رأيٌ أعيش به وقلب قلّب
لقد عدا هذا الأعرابي طوره، وتجاوز قدره، وإني لأرجو أن يغفر الله لصاحب الأبيات الأولى لحسن الظن بها، وطلب العذر لها. فعرضت عليه الطعام فقال: سبحان الله! أويحسن الظن بمثلي أن يأكل طعامًا بعد سماع هذه الأبيات؟ والله ما كنت لأخلط بها طعامًا حتى الليل، وانصرف.
والأبيات التي أنشدها أبو السائب لبعض الهذليين هي من مليح الشعر أولها:
طرقتك زينب والركاب مناخةٌ ... بحطيم مكّة والنّدى يتصبّب
بثنيّة العلمين وهنًا بعدما ... خفق السّماك وعارضته العقرب
وتحية وكرامة لخيالها ... ومع التحية والكرامة مرحب
أنى اهتديت ومن هداك ودوننا ... حمل فقّلة عاذب فالمرقب
ارتياح أهل المدينة إلى المزاح وانقطاعهم إلى السماع
ولأهل المدينة من الارتياح إلى المزاح، والانقطاع للسماع ما هو مشهور عندهم، مأثور منهم. قال عبد الله بن جعفر: أنا لي عند السماع هزة لو سئلت عندها لأعطيت، ولو قاتلت معها لأبليت.
وقال أبو العيناء: قال الأصمعي: مررت بدار الزبير بالبصرة، فإذا بشيخ من أهل المدينة من ولد الزبير يكنى أبا ريحانة جالس بالباب وعليه شملة تستره؛ فسلمت عليه وجلست إليه؛ فبينا أنا كذلك إذ طلعت علينا سوداء تحمل قربةً، فلما نظر إليها لم يتمالك أن قام إليها وقال لها: غنني صوتًا، فقالت: إن موالي أعجلوني، قال: لا بد من ذلك، قالت: أما والقربة على كتفي فلا، قال: فأنا أحملها: فأخذ القربة منها فحملها واندفعت تغني:
فؤادي أسيرٌ لا يفكّ ومهجتي ... تقضّى وأحزاني عليك تطول
ولي مقلةٌ قرحى لطول اشتياقها ... إليك وأجفاني عليك همول
فديتك، أعدائي كثيرٌ وشقّتي ... بعيد وأشياعي لديك قليل
وكنت إذا ما جئت جئت بعلّة ... فأفنيت علاّتي فكيف أقول!
فطرب وصرخ، وضرب بالقربة فشقها؛ وقامت الجارية تبكي، وقالت: ما هذا بجزائي منك، شفعتك في حاجتك، فعرضتني لما أكره من موالي! فقال: لا تغتمي فالمصيبة علي حصلت، ونزع الشملة، ووضع يدًا من قدام ويدًا من خلف، وباعها وابتاع لها قربة وقعد بتلك الحال؛ فاجتاز به رجل من ولد علي ﵁، فعرف حاله فقال: يا أبا ريحانة؛ أحسبك من الذين قال الله ﷿ فيهم: " فما ربحَتْ تجارتهم وما كانوا مهتدين ". قال: لا، يابن رسول الله، ولكني من الذين يقول الله لهم: " فبشِّرْ عبادي الذين يستمعون القولَ فيتبعونَ أحسنَه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب ". فضحك وأمر له بألف درهم.
وقال رجل لابن جعدبة: يا أبا الحكم؛ الرجل الذي يشدو بالأصوات ما ترى فيه؟ قال: سبحان الله! كنا إذا أتت على الرجل أربعون سنة لا يحسن عشرة أصوات عددناه من أهل بقيع الغرقد يعني الموتى.
ومر بالأوقص المخزومي وهو قاضي المدينة يتغنى بليل فأشرف عليه، وقال: يا هذا؛ شربت حرامًا، وأيقظت نيامًا، وغنيت خطأ، خذ عني وأصلح له الغناء.
غناء في مسجد الرسول ﷺ
1 / 19