فأجابه ابن الأنباري: قد صدق سيدنا أيده الله في كل ما قاله من الأشعار التي عدل قائلوها عن سنن المؤمنين المتقين، ولم أكن أجهل أكثر ذلك، إلا أنه لم يخطر ببالي ذكر ما كنت أعرف منه في وقت كتابتي ما كتبت به، وما كل ما يعرف الإنسان يحضره، ولا تتواتى كل وقت خواطره؛ على أن الذي جرى في هذا الأمر إنما هو على سبيل التعلم والتفهم. يذكر الذاكر شيئًا قد تقدم صوابه. فيحتج له، وعليه فيه حجة قد تركها، فيكشف السامع لها غطاءه مستبصرًا أو مذكرًا، فإن كان الحق ضالته وجد ما ابتغى، وغنم ما وجد، وإن أنف من الرجوع، واشتد عليه النزوع، جحد ما علم، واحتج لما جهل؛ لأن كل مطالب بباطل لا يخلو من جهل بما يدعي، أو جهل بما يعرف، ولم يعقد أعز الله الأمير مجلس لمناظرة في علم يعطى النظر فيه حقه إلا فاز المرء فيه باستفادة صواب كان يجهله، ورجوع عن خطأ كان يعتقده.
ولست أعز الله الأمير بمعصوم، ومن لم يكن معصومًا لم يكن صوابه بمضمون، ولا زلله بمأمون، وعلى حسب ما جرى تعلق قلبي بمعرف ما تضمنته رقعتي هذه من الأمير، فإن كان لامتنانه بتعريفي ذلك في جواب عنها وجيه جرى فيه على عادة طوله وفضله إن شاء الله.
جواب ابن المعتز
فأجابه ابن المعتز: إنما أحببت أعزك الله أن تكون من الإخوان الذين يتجانون ثمر التناصح فيتذاكرون فيتذكرون، ويتدارسون فيفيدون ويستفيدون، ففتحت بيني وبينك هذا الباب آذنًا بالولوج علي منه، واثقًا بكمال عقلك في المسارعة إليه، وصنت مودتنا على استحسان مزور، وتعمد الجحد في إقراره، وملق مكاشر يظهر التصديق بلا إنكار. ولا يزال الإخوان يسافرون في المودة حتى يلقوا الثقة فتلقى عصا التسيار، وتطمئن بهم الدار، وتقبل وفود النصائح، وتؤمن خبايا الضمائر، وتلقى ملابس التخلق، وتحل عقد التحفظ، وقد أبعدك الله تعالى من الخطأ لما أشرق نور الصواب، ولم لا وبلى يصطرعان على الحق، وبالتعب وطىء فراش الراحة، وبالبحث تستخرج دفائن العلوم، ولا فرق بين إنسان يقاد وبهيمة تنقاد.
ولولا أن الناس اختلفوا متفرقين لاختلفوا متشاحين، ولما قصدوا بالسكنى إلا بقعةً من الدنيا يتنافسون فيها، ويتفانون عليها؛ وخير الاختلاف ما اجتنب معنى التمادي على الباطل فاهتدي فيه بالتبصير. كما روي أن عليًا ﵁ حاج عمر ﵁ في المرأة التي وضعت لستة أشهر، فأراد عمر رجمها فقال له: قد قال الله تعالى: " وَحَمْلُه وفِصَالُه ثلاثون شهرًا ". فرجع عن ذلك عمر وأمضاه.
وبالتقليد هلك مترفو الكفار القائلون: " إنّا وجَدْنَا آباءنا على أُمَّةٍ وإنَّا على آثارهم مُقْتَدُون ". وقال بعضهم: إذا سرك أن تعرف خطأ مؤدبك فجالس غيره. وقال عمر ﵁: ليس شيء أضر بالمرء من لجاجة في جهل. وإنما كان يكره رسول الله ﷺ المسائل والبحث لشفقته على أمته من نزول معترض يثقل عليهم فيما يسألون عنه، ثم كره عمر وعلي رضوان الله عليهما ما كان يجري على سبيل التعنت، ويفارق سبيل التفقه. ولذلك قال علي ﵁ لابن الكوا: سل تفقهًا ولا تسل تعنتًا.
ظرف أهل المدينة
وقال مالك: ما رأيت أشبه بأهل المدينة من ابن سيرين، وأهل المدينة أرق الناس أدبًا، وأحلاهم طربًا، وأبرعهم شيمًا، وأطبعهم كرمًا، ويقال: دل حجازي، وعشق يماني. وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي:
إنّ قلبي بالتلّ تلّ عزازٍ ... مع ظبي من الظباء الجوازي
شادن لم ير العراق وفيه ... مع ظرف العراق دلّ الحجا
وقال أبو تمام:
من شاعرٍ وقف الكلام ببابه ... واكتنّ في كنفي ذراه المنطق
قد ثقّفت منه الشآم وسهّلت ... منه الحجاز ورقّقته المشرق
وكان عبد الملك بن الماجشون يقول: لقد كنا بالمدينة وإن الرجل يحدثني بالحديث من الفقه فيمله علي، ويذكر الخبر من الملح فأستعيده فلا يفعل. ويقول: لا أعطيك ملحي، وأهبك ظرفي وأدبي.
وقال ابن الماجشون: إني لأسمع الكلمة المليحة وما لي إلا قميص واحد فأدفعه إلى صاحبها وأستكسي الله ﷿. وقيل لأبي السائب المخزومي: أترى أحدًا لا يتمنى النسيب؟ قال: أما من يؤمن بالله واليوم الآخر فلا.
أبو السائب وفكاهاته
1 / 17