بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم.
مُقَدّمَة
وَمَا توفيقي إِلَّا بِاللَّه عَلَيْهِ توكلت وَإِلَيْهِ أنيب
الْحَمد لله الَّذِي دلّ على مَعْرفَته بإتقان صَنعته، وبديع لطائف حكمته، وَبِمَا أودعهُ نفوس المميزين من أَعْلَام ربوبيته، وَاسْتحق على كل مُكَلّف الخنوع لعظمته، والخشوع لعزته، وَالشُّكْر والإشادة بِمَا أَسْبغ من نعْمَته، وَنشر من رَحمته، وَجعل قُلُوب أوليائه تسرح فِي ميادين محَاسِن مَا ابتدعه، وعقولهم ترتاح لما من عَلَيْهِم من استنباط الْمعرفَة بِمَا اخترعه، فأغناهم بالتنعم بِمَا بسط لَهُم من الْمُبَاحَات، عَمَّا زجرهم عَنهُ من الْمَحْظُورَات، فَصَارَ مَا تُدْرِكهُ الْعُقُول من لطيف مَا أنشأه، وشريف الْغَرَض فِيمَا ابتدأه، وغريب أَفعاله فِي تَدْبِير عباده، وتصريفهم، وَتَقْدِير منافعهم ومصالحهم، أقواتًا لَهَا تربى على أقوات أجسادها الَّتِي هِيَ أوعية تشْتَمل عَلَيْهَا، وَأشْهد أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وليّ النعم كلهَا دون من سواهُ، وَأَنه لَا فلاح إِلَّا لمن هداه، وَلَا صَلَاح إِلَّا لمن عصمه من إتباع هَوَاهُ، وَأَن مُحَمَّدًا عَبده الَّذِي ارْتَضَاهُ، وَنبيه الَّذِي اخْتَارَهُ واجتباه، وَرَسُوله الَّذِي ائتمنه واصطفاه، وَرَفعه وَأَعلاهُ، وَخَصه بِخَتْم النُّبُوَّة وحباه، وأبانه بِأَعْلَى منَازِل الْفضل على كل آدَمِيّ عداهُ، ونسأله أَن يُصَلِّي عَلَيْهِ وعَلى آله وَيسلم أزكى تسلم وَصَلَاة، ويكرمه أتم تكريم وأنباه، ويجعلنا من الآوين إِلَى ظله وذراه، والداعين إِلَى نوره وهداه، ويعصمنا من الْخُرُوج عَن طَاعَته، والولوج فِي مَعْصِيَته، ويوفقنا لإيثار عِبَادَته، ومجانبة عصيانه ومخالفته، وَهُوَ لي الإنعام بذلك، والتيسير لَهُ، والمعونة عَلَيْهِ من رَحمته.
أما بعد، فإنني مُنْذُ مُدَّة مَضَت، وسنةَ خلت، فَكرت فِي أَشْيَاء من عجائب خلق الله وَحكمه، وأياديه ونعمه، ومثلاته ونقمه، وَقد اكتنفتني هموم وأحزان، ولوعات وأشجان، وفنون شَتَّى من حوادث الزَّمَان، وَمَا قد فَشَا فِي النَّاس من التظالم التحاسد، والتقاطع والتباعد، وَأَن مَا هُوَ أولى بهم من الْأنس للمجانسة، قد فارقوه إِلَى الاستيحاش للمنافسة، وحصلت على الِاسْتِئْنَاس بالوحدة وَالْخلْوَة، ثمَّ تطلعت إِلَى جليس طَمَعا فِي أنس وسلوة، فأعوزني ذُو لب عَاقل، وَاتفقَ لي كل غبي جَاهِل، فلاح لي أَن أنشئ كتابا أضمنه أنواعًا من الْجد الَّذِي يُسْتَفَاد ويعتمد عَلَيْهِ، وَمن الْهزْل فِي أَثْنَائِهِ مَا يسر استماعه ويستراح إِلَيْهِ، فَإِن اخْتِلَاف الْأَنْوَاع يسهل النّظر فِيهَا، وينشط الْوُقُوف عَلَيْهَا، ويوفر الِاسْتِمْتَاع بهَا، وَأَن أضمنه علومًا غزيرة وآدابًا كَثِيرَة، وأجعله مجَالِس موزعة على الْأَيَّام والليالي، وَلم اشْترط فِيهَا مبلغا من الْعدَد محصورًا وَلَا قدرا من الْمجَالِس مَحْظُورًا، ثمَّ إِن طوارق الزَّمَان وموانعه، وأحداثه وفجائعه، وعوائقه وقواطعه، وأهواله وفظائعه، حَالَتْ بَين وَبَين مَا آثَرته، وَنَفْسِي على هَذِه مُتَعَلقَة بِهِ، ومؤثرة لَهُ ومنازعة إِلَيْهِ، إِلَى حَيْثُ انتهينا، ثمَّ إِنَّنِي حملت نَفسِي فِي
1 / 5
هَذَا الْوَقْت على الشُّرُوع فِيهِ، الِاشْتِغَال بِهِ، وَسَهل الْأَمر عَليّ فِيهِ أَن بعض أَصْحَابنَا يَكْتُبهُ عني إملاء فِي الْوَقْت بعد الْوَقْت.
وَقد صنف فِي نَحْو هَذَا الْكتاب جمَاعَة من أهل الْعلم وَالْأَدب كتبا على أنحاء مُخْتَلفَة، فَمنهمْ من جعل جملَة كِتَابه جَامِعَة لكتب مكتتبة، وَمِنْهُم من جعله أبوابًا مبوبة، وأفرد أبوابه بفصول مُمَيزَة، وَمَعَان خَاصَّة غير ممتزجة، وسمى بعض هَؤُلَاءِ مَا أَلفه الْجَوَاهِر وَبَعْضهمْ زَاد الْمُسَافِر وَبَعْضهمْ الزهرة وَبَعْضهمْ أنس الْوحدَة، فِي أشباه لهَذِهِ السمات عدَّة، وَعمل أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بْن يزِيد النَّحْوِيّ كِتَابه الَّذِي سَمَّاهُ الْكَامِل، وَضَمنَهُ أَخْبَارًا وقصصًا لَا إِسْنَاد لكثير مِنْهَا، وأودعه من اشتقاق اللُّغَة وَشَرحهَا وَبَيَان أسرارها وفقهها مَا يَأْتِي مثله بِهِ لسعة علمه وَقُوَّة فهمه، ولطيف فكرته، وصفاء قريحته، وَمن جلي النَّحْو وَالْإِعْرَاب وغامضها مَا يقل وجود من يسد فِيهِ مسده، إِلَّا أَن كِتَابه هَذَا مقصر عَمَّا وسمه بِهِ، وَاخْتَارَهُ من تَرْجَمته، وَغير لَائِق بِهِ مَا آثره من تَسْمِيَته، فحطه بِهَذَا عَن منزلَة - لَوْلَا مَا صنعه - كَانَت حَاصِلَة لَهُ، فسبحان الله مَا أبين انْتِفَاء هَذَا الْكتاب عَن نسبه، وَأَشد منافاته للقبه! وَأَنْشَأَ الصولي كتابا سَمَّاهَا الْأَنْوَاع مبوبًا أبوابًا شَتَّى غير مستوفاة، وأتى فِيهِ بأَشْيَاء مستحسنة على مَا ضم إِلَيْهِ من أُمُور مستهجنة، وصنف أَيْضا كتابا كَأبي قماش سَمَّاهُ النَّوَادِر، وهجاه بعض الشُّعَرَاء بِمَا كرهت حكايته، وَإِن كَانَ حِين وقف عَلَيْهِ فِيمَا بَلغنِي اسْتغْرب ضحكًا، غير أَن الْجَمِيل أجمل، والتسلم من أَعْرَاض النَّاس أمثل، وصنف قوما كتبا فِي هَذَا الْبَاب تشْتَمل على فقر من الْآدَاب والفوائد منثورة غير مبوبة، ومخلوطة غير مُقَيّدَة، بفصول متميزة وَلَا أَبْوَاب متحيزة.
وَقد سميت كتابي الجليس الصَّالح الْكَافِي، والأنيس الناصح الشافي وأودعته كثيرا من فنون الْعُلُوم والآداب، على غير حصر بفصول وأبواب، وضمنته كثيرا من محَاسِن الْكَلَام وجواهره، وملحه ونوادره، وَذكرت فِيهِ أصولًا من الْعلم أتبعتها شرح مَا يتشعب مِنْهَا، ويتصل بهَا بِحَسب مَا يحضر فِي الْحَال، مِمَّا يُؤمن مَعَه الملال، وَمن وقف على مَا أتيت بِهِ من هَذَا، علم أَن كتَابنَا أَحَق بِأَن يُوصف بالكمال والاستيفاء، والتمام وَالِاسْتِقْصَاء، وَصدق وسمه بالجليس والأنيس، فَإِن الْكتاب إِذا حوى مَا وصفناه من الْحِكْمَة وأنواع الْفَائِدَة، كَانَ لمقتنيه والناظر فِيهِ بِمَنْزِلَة جليس كَامِل وأنيس فَاضل، وَصَاحب أَمِين عَاقل، وَقد قيل فِي الْكتاب مَا مَعْنَاهُ أَنه حَاضر نَفعه، مَأْمُون ضره، ينشط بنشاطك فينبسط إِلَيْك، ويمل بملالك فينفض عَنْك، إِن أدنيته دنا، وَإِن أنأيته نأى، لَا يبغيك شرا، وَلَا يفشي عَلَيْك سرا، وَلَا ينم عَلَيْك، وَلَا يسْعَى بنميمة إِلَيْك، وَلذَلِك قَالَ بَعضهم:
نعم الصاحب والجليس كتاب ... تهلو بِهِ إِن خانك الْأَصْحَاب
لَا مفشيًا عِنْد القطيعة سره ... وتنال مِنْهُ حِكْمَة وصواب
1 / 6
وَقَالَ آخر:
لنا جلساء مَا نمل حَدِيثهمْ ... ألباء مأمونون غيبًا ومشهدا
يفيدوننا من علمهمْ طرف حِكْمَة ... وَلَا نتقي مِنْهُم لِسَانا وَلَا يدا
فِي أَبْيَات.
وَذكر عَن عبد الله بن الْمُبَارك أَنه سُئِلَ: أما تستوحش من مقامك مُنْفَردا بهيت؟ فَقَالَ: كَيفَ يستوحش من يُجَالس النَّبيّ ﷺ وَأَصْحَابه رضوَان الله عَلَيْهِم، وَقد كَانَ بعض من كَانَ لَهُ فِي الدُّنْيَا صيت ومكانة، عَاتَبَنِي على ملازمتي الْمنزل، وإغبابي زيارته، وإقلالي مَا عودته من الْإِلْمَام بِهِ وغشيان حَضرته، وَقَالَ لي: أما تستوحش الْوحدَة وَنَحْو هَذَا من الْمقَالة، فَقلت لَهُ: أَنا فِي منزلي إِذا خلوت من جليس يقْصد مجالستي، ويؤثر مساجلتي، فِي أحسن أنس وأجمله، وَأَعلاهُ وأنبله، لأنني أنظر فِي آثَار الْمَلَائِكَة والأنبياء، وَالْأَئِمَّة وَالْعُلَمَاء، وخواص الْأَعْلَام الْحُكَمَاء، وَإِلَى غَيرهم من الْخُلَفَاء والوزراء، والملوك والعظماء، والفلاسفة والأدباء، وَالْكتاب والبلغاء، والرجاز وَالشعرَاء، وكأنني مجَالِس لَهُم، ومستأنس بهم، وَغير ناء عَن محاضرتهم لوقوفي على أنبائهم، ونظري فِيمَا انْتهى إِلَيّ من حكمهم وآرائهم.
وَقد تجشمت إملاء هَذَا الْكتاب على مَا خلفته ورائي من طول السنين، حصلت فِيهِ من عشر التسعين، مَعَ ترادف الهموم وتكاثف الغموم، ومشاهدة مَا أَزَال مرتمضًا بِهِ، وممتعضًا مِنْهُ لفساد الزَّمَان وانتكاسه، وَعَجِيب تقلبه وانعكاسه، واختلاطه وارتكاسه، وَوَضعه الْأَعْلَام الرفعاء، وَرَفعه الطغام الوضعاء، فقد أحل الأراذل مَحل الأفاضل، وَأعْطى السَّفِيه الأخرق حَظّ النبيه الْعَاقِل، وَصرف نصيب الْعَالم إِلَى الْجَاهِل، وصير النَّاقِص مَكَان الوافر الْكَامِل، وَالرَّاجِح الْفَاضِل، وَقدم على الْعلم المبرز الغفل الخامل، وَلَقَد قلت فِي بعض مَا دفعت إِلَيْهِ، وامتحنت بِهِ، حِين منعت النّصْف، وحملت على الْخَسْف، حَتَّى انقدت للعنف، وأصبحت عِنْد الْغَلَبَة والعسف:
علام أعوم فِي الشّبَه ... وأمري غير مشتبه
أرى الْأَيَّام مُعْتَبرا ... على مَا بِي من الوله
بلحظ غير ذِي سنة ... وحظ غير منتبه
أروح وأغتدي غبنًا ... أَكثر من أقل بِهِ
وَقلت فِي نَحْو هَذَا الْمَعْنى:
أأقتبس الضياء من الضباب ... وألتمس الشَّرَاب من السراب
أُرِيد من الزَّمَان النذل بذلاَ ... وأريًا من جنى سلع وصاب
أرجي أَن أُلَاقِي لاشتياقي ... سراة النَّاس فِي زمن الْكلاب
فِي كثير من نَحْو هَذَا من النثر والقريض، وذم الزَّمَان السوء بِالصَّرِيحِ والتعريض،
1 / 7
وَأَرْجُو أَن يُغير الله مَا أَصْبَحْنَا مِنْهُ ممتعضين، وأمسينا مَعَه مرتمضين، ويشفي صُدُور قوم مُؤمنين، وَيذْهب غيظ قُلُوب الأماثل من الْعلمَاء المبرزين، فقد بلغ مِنْهُم مَا يرَوْنَ من تَقْدِيم الأراذل الضلال، والأداني الْجُهَّال، حَتَّى صدرُوا فِي مجَالِس علم الدَّين، وَقدمُوا فِي محافل وُلَاة أُمُور الْمُسلمين، وصيروا قُضَاة وحكامًا ورؤساء وأعلامًا، دون ذَوي الأقدار، وأولي الشّرف والأخطار، وَكثير مِمَّن يشار إِلَيْهِم مِنْهُم لَا يفهم من كتاب الله آيَة، وَإِن تعَاطِي تلاوتها لحن فِيهَا، وأتى بِخِلَاف مَا أنزل الله مِنْهَا، وَلَا كتبُوا سنة من سنَن رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَلَا دورها، وَإِن تكلفوا ذكرهَا أحالوها، وآتو بهَا على غير وَجههَا، وَلَا عرفُوا شَيْئا من أَبْوَاب الْعَرَبيَّة وتصريفها، وَلَا لَهُم حَظّ من الفلسفة وأجزائها، وَمَعَ هَذِه فقد اتّفق لبَعْضهِم من فريق قد شدا من الْعلم طرفا، ونال مِنْهُ حظًا، عدد يعظمونه ويغلون فِي تَعْظِيمه وتقديمه على أنفسهم، وَإِن كَانَ أَسْوَأ حَالا وأخفض عقلا مِنْهُم، كَمَا عبد الْأَصْنَام من هُوَ أَعلَى منزلَة مِنْهَا بِالْحَيَاةِ وَالْقُدْرَة، وَالْعلم والمعرفة، والبطش وَالْقُوَّة، وَالتَّصَرُّف وَالْحِيلَة، وأقدم هَؤُلَاءِ الأغمار على الشَّهَادَة بالزور لمن وَصفنَا جَهله وسقوطه، بإضافتهم إِلَيْهِ من الْعلم بِمَا هُوَ أَجْهَل النَّاس بِهِ، وأبعدهم من مَعْرفَته لميلهم إِلَى بعض ضلالاته، وأنسهم بِكَثِير من خساراته، وَإِن كَانَت بِخِلَاف مَا يعذرُونَ فِيهَا من مُوَافَقَته، فقد صَارُوا سخريًا مسخورًا مِنْهُم، وسخريا مسخرين لتقليد من وَصفنَا صفته، وَاسْتمرّ هَذَا الْفَرِيق الْمَغْرُور على إتباع حزب الشَّيْطَان الَّذين اغتروا بهم، وبذلوا المناصرة لَهُم وممالأتهم ومضافرتهم وإعزازهم، ومظاهرتهم وتأييدهم ومؤازرتهم، واستفزهم مَا يزخرفونه لَهُم من كَلَامهم، وَإِن كَانَ مسترذلًا، ومخطأً ملحنًا، عِنْد من أَعْلَاهُ الله من أفاضل الْعلمَاء عَلَيْهِم، وأبانهم بِالْعلمِ والتفقه فِي الدَّين مِنْهُم، إِذْ أَكثر مَا يأْتونَ بِهِ من الهجر الَّذِي يُسَمِّيه قوم الهاذور، وبمنزلة من قَالَ فِيهِ بعض الشُّعَرَاء:
هذريان هذر هذاءة ... موشك السقطة ذُو لب نثر
واستنزلهم من عبارتهم مَا هُوَ من نوع هجر باعة القميحة السفوفيين، وتنميق هَذِه أَصْحَاب الْفَاكِهَة والرياحين، وهذيان أهل الْحِكَايَة والمخيلين، فَلَمَّا وَصفنَا جنحنا إِلَى الصَّبْر، واستصحبنا، الخمول رَجَاء إنعام الله بالإعانة والنصر، وَذكرت - فِي وقتي هَذَا عِنْد إثباتي مَا أثْبته من حَال ذَوي النَّقْص الَّذِي يَتَقَلَّبُونَ فِي دولة، وَإِن كَانُوا من باطلهم فِي بولة، على أَنَّهَا سَحَابَة صيف عَن قَلِيل تقشع - خَبرا حَدثنَا بِهِ مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الْمَرْزُبَان، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ مهْدي الأبلي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن السايح، قَالَ: حَدثنَا حَمَّاد بْن مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن شُعَيْب بن سَابُور، قَالَ: سَمِعت الْأَوْزَاعِيّ ينشد هَذِه الأبيات:
1 / 8
إِذا كَانَ الخطاء أقل ضرًا ... وأنجحَ بالأمور من الصوابِ
وَكَانَ النِّوك مَحْمودًا مذالًا ... وَكَانَ الدَّهْر يرجع بانقلابِ
وعطِّلت المكارمُ والمعالي ... وأُغلقَ دون ذَلِك كلُّ بابِ
ويوعد كل ذِي حَسَب ودينٍ ... وقُرِّب كل مهتوك الحجابِ
فَمَا أحدٌ أضنَّ بِمَا لَدَيْهِ ... من المتحرج المحْضِ اللُّباب
وَأنْشد شَيخنَا أَبُو جَعْفَر الطَّبَرِيّ ﵀ هَذِه الأبيات، وَفِيمَا أنْشدهُ بَيت آخر وَهُوَ:
وولّى بَعضهم خَرْجًا وحربا ... وولِّي بَعضهم فصلَ الخطابِ
وَحذف من الْجُمْلَة بَيْتا.
وَأَنا مِنْهُ هَذِه الرسَالَة إِلَى هَذَا الْموضع، ومبتدئ بِمَا قصدت إيداعه هَذِه الْكتاب وتضمينه إِيَّاه.
1 / 9
الْمَجْلِسُ الأَوَّلُ
حَدِيثُ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغَوِيُّ فِي يَوْمِ الاثْنَيْنِ لِثَلاثِ ليل خَلَوْنَ مِنَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سَبْعَ عشرَة وثلاثمائة، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو كَبْشَةَ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بن عمر حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: " بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَده من الناي.
التَّعْلِيق عَلَى الحَدِيث
قَالَ القَاضِي أَبُو الفَرَج: قَوْله ﵇: " بَلِّغُوا عَنِّي وَلَو آيَة " أَمر لأمته بتبليغ مَا أَتَاهُم بِهِ من وَحي رَبهم، وَيسر الْأَمر عَلَيْهِمْ فِيمَا يبلغونه، ويلقونه، إِلَى مَا بعدهمْ ويؤدونه، ليتصل نقل الْقُرْآن عَنْهُ إِلَى آخر أمته، وَيلْزم حجَّته جَمِيع من انْتهى إِلَيْهِ مِمَّن يَأْتِي بعده، فقد أَتَاهُ الْوَحْي بِمَا أَتَاهُ من قَوْله، " أُوحِي إِلَيّ هَذَا الْقُرْآن لأنذرنكم بِهِ وَمن بلغ " ونظيرُ مَا أَمر بِهِ من التَّبْلِيغ قَوْله فِي خبر آخر: " نَضّر اللَّه امْرَءًا سمع مَقَالَتي فوعاها ثُمَّ أدّاها كَمَا سَمعهَا، فربَّ حامِل فقه غَيْر فَقِيه، وَرب حَامِل فقه إِلَى من هُوَ أفقه مِنْهُ " وَقَوله: وَلَو آيَة، فَإِنَّهُ أَتَى عَلَى وَجه التقليل ليسارع كلّ امْرِئ فِي تَبْلِيغ مَا وَقع من الْآي إِلَيْهِ، فيتصل بتبليغ الْجَمِيع أَوْ بعضه نَقله، ويتكامل باجتماعه واستكمال أَدَاؤُهُ.
الْآيَة وَمَا فِيهَا من اللُّغَة والنحو
فَأَما الْآيَة فَفِيهَا من طَرِيق علم اللُّغَة ثَلَاثَة أوجه، وَمن جِهَة صناعَة النَّحْو وَالْإِعْرَاب ثَلَاثَة أضْرب، فأحدُ الْوُجُوه فِيهَا من قِبَلِ اللُّغَة أَنَّهَا العَلامة الفاصلة، وَالْوَجْه الثَّانِي أَنَّهَا لأعجوبة الْحَاصِلَة، وَالْوَجْه الثَّالِث أَنَّهَا الْمثلَة الفاصلة، وَهَذِه الْأَوْجه الثَّلَاثَة إِذَا رُدَّت إِلَى أُصُولهَا مُتَقَارِبَة رَاجِعَة فِي الْمَعْنى إِلَى طَريقَة وَاحِدَة، وَجُمْلَة آحادها متناسبة، فَإِذا قيل: اجْعَل لكذا وَكَذَا آيَة، فَالْمَعْنى عَلامَة فاصلة تدل عَلَى الشَّيء بحضورها، وتفقد دلالتها بغيبتها، أَلا ترى إِلَى قَول اللَّه جلّ ثَنَاؤُهُ: " قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً، قَالَ آتِيك أَلا تكلم النَّاس " إِلَى آخر الْقِصَّة فَإِنَّمَا سَأَلَ السَّائِل ربه أَن يَجْعَل لَهُ عَلامَة لمّا وعده وبشره بِهِ، فِي مَا جانس هَذِه ممّا تضمنه كتاب اللَّه عزَّ ذكرهُ، قَالَ الشَّاعِر:
أَلا بلغ لَدَيْكَ بَنِي تَميمٍ ... بآيةِ مَا يُحِبُّون الطعاما
وَقَالَ آخر:
ألِكنْي إِلَيْهَا عَمْرُك اللَّه يَا فَتى ... بآيةِ مَا جاءتْ إِلَيْنَا تَهَادِيَا
وَمثل هَذَا فِي الشّعْر وَسَائِر الْكَلَام كثير.
ولمّا كَانَ ذكر الْآيَة يَعْنِي الأعجوبة فَمِنْهُ مَا ذكره اللَّه عزَّ ذكره فِي مَوَاضِع من كِتَابه
1 / 10
عِنْدَ ذكره مَا أحله من النقمَة بأعدائه: " إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ " بِمَعْنى الْعجب ممّا حلّ بهم عِنْدَمَا كَانَ من تكذيبهم رُسُلَ رَبهم.
وأمّا الْعبارَة بِالْآيَةِ عَنِ الْعُقُوبَات المنكَّلة فكثيرةُ فِي كَلَام الْخَاصَّة من أَهْلَ اللِّسَان الْعَرَبِيّ كَقَوْلِهِم: قَدْ جُعل فلَان آيَة، إِذا جلّ بِهِ فظيع من الْمَكْرُوه أَلا ترى أَنهم يَقُولُونَ لمن نزل بِهِ شَيْءٍ من هَذَا بِهِ، أَوْ حصل عَلَى صفة مذمومة يُعيَّر بهَا وَيُسَبُّ ويُوصم بهَا: فلانٌ آيةٌ منزلَة، فَأَما الْعِقْد الْجَامِع لهَذِهِ الْأَوْجه الثَّلَاثَة الَّذِي يردُّها إِلَى جملَة وَاحِدَة، فَهُوَ أنَّ العَلامَة إنّما قيل لَهَا لدلالتها وفضلها وإبانتها، وَوَقع الْفَصْل فِي الْقُرْآن بهَا حَتَّى تميزت بَعْض أَلْفَاظه من غَيرهَا، فَصَارَت كلّ قِطْعَة من ذَلِكَ جملَة عل حَالهَا.
وأمّا معنى الأعجوبة فَإِنَّمَا يَقع فِي التعجُّبُ من المستغرب الَّذِي يقل وُقُوعه، فينفصل من الْكثير الْوُجُود الَّذِي يخْتَلط فِيهَا بعضه بِبَعْض، وَلَا يكون فِيهِ من الِاخْتِصَاص مَا فِي الْمَوْجُود الَّذِي قدمنَا ذكره.
وأمّا النكال الحالّ بِمن حل بِهِ فَإِنَّهُ يُقَالُ لَهُ آيَة، من حَيْث مَسَارُ أمره أعْجوبة يُعتبر ويتعظ بهَا، وَكَانَ معنى خَاصّا قُوبل بِهِ أمرٌ خاصٌّ بِمَا أَتَاهُ من وَقعت المجازاة بِهِ، فَكل وَاحِد من هَذِهِ الْأَوْجه الثَّلَاثَة مجانس لصَاحبه فِي أَنَّهُ أَمارَة وعلامة وأعجوبة لاختصاصها بِمَا فِيهِ حجَّة باهرة، وَدلَالَة قاهرة، ومثلة ونقمة لما فِيهِ من التميز وَالْعجب وفظيع التنكيل، بِأَهْل الزيغ والتبديل.
وأمّا الأضرب الثَّلَاثَة من قبل النَّحْو وتصريف الْإِعْرَاب، فَإِن النَّحْوِيين من الْكُوفِيّين والبصريين اخْتلفُوا فِي الْآيَة مَا وَزنهَا من الْفِعْل، فَقَالَ الْكسَائي: هِيَ فِي الأَصْل فاعلة وَأَصلهَا آيية، وَكَانَ يَنْبَغِي أنَّ تُدْغَم الْيَاء الأولى فِي الثَّانِيَة لاجتماعهما متحركتين فَتَصِير آيَة مثل دابَّة الَّتِي أَصْلهَا دَابِيَة، فاستثقلوا التَّشْدِيد فَقَالُوا: آيَة.
وَقَالَ نحويو الْبَصْرَة: وَزنهَا فِي الأَصْل فَعَلَة وَأَصلهَا أَيَيَة، فَصَارَت الْيَاء ألفا لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا. وَقَالَ الْفراء: وَزنهَا من الْفِعْل فعلة وَأَصلهَا أيَّة، فاستثقلوا التَّشْدِيد فأتبعوه مَا قبله فَصَارَت الْيَاء الأولى ألفا كَمَا قَالُوا: ديوَان ودينار وَالْأَصْل فِيهَا دوان ودنار، وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ أَنهم يَقُولُونَ فِي جمعهَا دواوين ودنانير، وَلَا يَقُولُونَ دياوين وديانير، وَيجمع الْآيَة آيَات عَلَى جمع السَّلامَة، وآيًا عَلَى أَنَّهَا من الْقَبِيل الَّذِي سبق جمعه واحدَة فَصَارَ بَيْنَ توحيده وَجمعه الْهَاء الَّتِي فِي واحده. وَقد زعم قومٌ أنَّ معنى الْآيَة: الْجَمَاعَة، وَهَذَا قَول رَابِع لِأَنَّهُ خطأ، وَالْبَيَان عَنهُ أصل اشتقاق الْآيَة بِمَا بَيْنَ الْخَلِيل وسيبويه والأخفش فِيهِ من الِاخْتِلَاف فِي تَقْدِير مَدَّته وتصريفه، واستيعاب بَابه يَأْتِي فِي كتَابنَا الْمُسَمّى الْبَيَان الموجز، عَنْ عُلُوم الْقُرْآن المعجز إِن شَاءَ الله ﷿.
وَقَوله ﵇: " وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا حرج " فإنّ الحَرَج أصلُه فِي كَلَام الْعَرَب:
1 / 11
الضّيق، وَمِنْه قيل للطائفة من الشّجر الملتفّ المتضايق: حَرْجة، وَكَانَ مقَاتل بْن سُلَيْمَان يتَأَوَّل مَا جَاءَ فِي الْقُرْآن من ذَكَرَ الْحَرج أَنه الشَّك، وَهَذِه يرجع إِلَى مَا وصفناه من معنى الضّيق، لِأَن الشاكَّ يضيق صَدره، وَيُخَالف الْعَالم بالشَّيْء الْمُثْلج صدرُه بِمَا عَلمِه فِي رَاحَة الْيَقِين، واتساع الصَّدْر وانفساحه وتعرَّيه من ازدحام الظنون وَاعْتِرَاض الشكوك الَّتِي تضيِّقه، وَقد زعم بَعْض أَهْلَ الِاشْتِقَاق أنَّ الَّذِي يَتَّخِذهُ الرَّكْبُ من العيدان والخَشَب لرحالهم يُقَالُ لَهَا حُرْجُوج، لتضايقه واشتباكه وَيجمع حِراج، كَمَا قَالَ ذُو الرمة:
فَسِيرَا فقد طَال الوقوفُ ومَلّه ... قلائصُ أمثالِ الحَرَاجِيج ضمر
وَمِنْه قَلِيل للشَّيْء الْمَحْظُور المضّيق بِالتَّحْرِيمِ وَالْمَنْع: حَرَج وَقَرَأَ بَعْض الْمُتَقَدِّمين: " هَذِهِ أنعام وحرث حرج " مَكَان الْقِرَاءَة الْجُمْهُور حِجْر وحَجْر وَهِي كلهَا لُغَات مَعْرُوفَة فِي الْحجر بِمَعْنى الْحَرَام لُغَتَانِ الضَّم وَالْكَسْر، وَقد قرئَ بهما جَمِيعًا، وَقَوله: حرث حجر أَي حرَام، وَقَوله: " وَيَقُولُونَ حجرا مَحْجُورا " قَالَ أَهْلَ التَّأْوِيل: مَعْنَاهُ حَرَامًا محرما، قَالَ الشَّاعِر:
حَنّتْ إِلَى النَّخْلَةِ القصوى فَقلت لَهَا ... حِجْرٌ حرَام أَلا تِلْكَ الدَّهَارِيس
وَقَالَ آخر:
قَالَت وفيهَا حِمْقةٌ وذُعْرُ ... عوذ بربي مِنْكُمْ وَحجر
أَي استعاذة تُحَرِّم عَلَيْكُمْ مَا أخافه من مكروهكم، وَالْحجر أَيْضا: الْعقل، والحجى، وَمِنْه قَول اللَّه ﷿: " هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لذِي حجر " أَي عقل يمنعهُ من السَّفه والخرق، وَمِنْه حَجَر الْحَاكِم عَلَى السَّفِيه، هُوَ من التَّضْيِيق وَالْمَنْع وَالتَّحْرِيم، والمصدر مِنْهُ مَفْتُوح، وروى أنَّ النَّبيّ ﷺ قَالَ للأعرابي الَّذِي بَال فِي المَسْجِد ثُمَّ سَمعه يَقُولُ: " اللَّهُمّ ارْحَمْنِي ومحمدًا وَلَا ترحم مَعَنَا أحدا - " لَقَدْ تحجّرت وَاسِعًا " أَي ضَيّقْتَ مَا وسّعَهُ اللَّه عزَّ ذكره وحَظَرْتَ مَا فَسّح فِيهِ.
والْحِجْر ديار ثَمُود، وحِجْر الْكَعْبَة مكسوران، وحُجْر اسْم الرَّجُل مضموم الْحَاء سَاكن الْجِيم، كَمَا قَالَ عُبَيْد بْن الأبرص:
هلا عَلَى حُجْرِ بْن أمّ ... قَطَام تبْكي لَا علينا
وهرٌّ تصيدُ قلوبَ الرِّجَال ... وأفلت مِنْهَا ابنُ عَمْرو حُجر
كَمَا قَالَ طرفَة:
أيُّها الْفِتْيَانُ فِي مَجْلِسنَا ... جرِّدوا مِنْهَا وَارِدًا وشقرْ
وَالْكَلَام شُقْر بالإسكان مثل حُمْر وصُفْر، وَحجر الْيَمَامَة مَفْتُوح قَالَ الشَّاعِر:
فلولا الرِّيحُ أسمع من بحجرٍ ... صليلُ البيضِ تقرعُ بالذِّكورِ
وحِجْر الإِنْسَان فِيهِ لُغَتَانِ: الْفَتْح وَالْكَسْر.
وَمثل حرجٌ وحجْر، صَاعِقة وصاقعة، وجذَبْته جذبًا وجبذتهُ جبْذًا، فِي نَظَائِر لما
1 / 12
وَصفنَا كَثِيرَة، وَأما حاجز فموضع مَعْرُوف، قَالَ الْأَعْشَى:
شاقك من قَتْلَة أطْلالُها ... فالشطُّ فالقفُّ إِلَى حاجِرِ
وَخص بني إِسْرَائِيل بِهَذَا لمّا مَضَت فيهم من الْأَعَاجِيب، كَمَا خص الْبَحْر بِمَا فِيهِ من الْعَجَائِب، وأرخص فِي التحدث عَنْهُم مَعَ اتقاء الْحَرج بِالْكَذِبِ فِيهِ، وَقَوله: وَلَا حَرَج، يتّجه فِيهِ تَأْوِيلَانِ، إِحْدَاهمَا: أَن يكون خَبَرًا مَحْضا فِي مَعْنَاهُ وَلَفظه، كَأَنَّهُ لمّا ذَكَرَ بني إِسْرَائِيل وَكَانَت فيهم أعاجيبُ وَكَانَ كثيرٌ من النّاس ينبُو سمعُه عَنْهَا، فَيكون هَذَا مقطعَة لمن عِنْدَهُ علم مِنْهَا أَن يحدث النّاس بهَا، فَرُبمَا أدّى هَذَا إِلَى دروس الْحِكْمَة، وَانْقِطَاع مواد الْفَائِدَة، وانسداد طَرِيق إِعْمَال الفكرة، وإغلاق أَبْوَاب الاتعاظ وَالْعبْرَة، وَكَأَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ فِي تحدثكم بِمَا علمتموه من ذَلِكَ حرج.
والتأويل الثَّانِي: أَن يكون الْمَعْنى فِي هَذَا: النَّهْي فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا تحرَّجوا بِأَن تتحدثوا بِمَا قَدْ تبين لَكُم الْكَذِب فِيهِ محققين لَهُ أَوْ غَارِّين أحدا بِهِ، فَهَذَا اللفظُ عَلَى هَذَا الْوَجْه لفظُه لفظُ الخبَر وفائدتُه النهيُ من جِهَة الْمَعْنى، وَلَفظ النَّهْي لَا يَأْتِي إِلَّا مُتَعَلقا بفعلٍ مُستقبل، فَإِذا قيل: وَلَا تَحَرَّجُوا فَهُوَ صَرِيح اللَّفْظ بِالنَّهْي، فَإِذا قيل: وَلَا حرج جَازَ أَن يكون خَبرا مَحْضا معنى ولفظًا، وَجَاز أَن يكون لَفظه لفظ الْخَبَر فِي بنيته، وَمَعْنَاهُ النهيُ لقصد الْمُخَاطب وإرادته، دون صُورَة اللَّفْظ وصيغته، وَنصب الحَرَج فِي هَذَا الْموضع هُوَ الْوَجْه عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْمَعْنى الَّذِي يُسَمِّيه البصريون النَّفْي ويسميه الْكُوفِيُّونَ التبرئة، وَهُوَ عَلَى قَول الْخَلِيل مبنيٌّ يضارع المعرب، وعَلى قَول سِيبَوَيْهٍ معربٌ يضارع الْمَبْنِيّ، وَلَو رُفع ونُوِّن لَكَانَ وَجها قَدْ عرف واستُعمل كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
من صَدّ عَنْ نِيرانها ... فَأَنا ابْن قيسٍ لَا براحْ
وَقَوْلهمْ: لَا حول وَلَا قُوة إِلَّا بِاللَّه، للْعَرَب فِيهِ خَمْسَة مَذَاهِب: لَا حول وَلَا قوةَ إِلَّا بِاللَّه، وَلَا حولَ وَلَا قُوةً، وَلَا حولَ وَلَا قوةٌ، وَلَا حولٌ وَلَا قوةٌ، وَلَا حولٌ وَلَا قُوَّةُ.
وَقَالَ اللَّه تَعَالَى: " فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَال فِي الْحَج " هَذِه قِرَاءَة شَبيه وَنَافِع وَعَاصِم وَحَمْزَة وَالْكسَائِيّ فِي آخَرين، وَقُرِئَ: فَلا رفثَ وَلا فسوقَ وَلَا جدالَ، وَهِي قِرَاءَة أَبِي جَعْفَر يزِيد بْن الْقَعْقَاع المَخْزُومِي، وَقُرِئَ: فَلا رفثٌ وَلا فسوقٌ وَلا جِدَالَ " وَهِي قِرَاءَة مُجَاهِد وَابْن كثير وَأبي عَمْرو وَعدد غَيرهم، وَقد قَرَأَ بَعضهم وَلَا جِدَال مثل دَرَاكِ ومَنَاعِ، رويتْ هَذِهِ الْقِرَاءَة عَنْ عَبْد اللَّه بْن أبي إِسْحَاق، وَاخْتلف فِي علل إِعْرَاب هَذِه الْقرَاءَات، وَفِي عِلّة فرق فِي الْإِعْرَاب بَين بعضهما وَبَعض اخْتِلَاف يطول شَرحه، وَلَيْسَ هَذَا مَوضِع ذكره، وَنحن مستقصو القَوْل فِيهِ عِنْدَ انتهائنا إِلَيْهِ من كتَابنَا الْمُسَمّى الْبَيَان الموجز فِي عَلَمِ الْقُرْآن المعجز وَفِي كتَابنَا فِي الْقرَاءَات، وَكِتَابنَا فِي عللها وتفصيل وجوهها.
وَقَوله: " من كذب عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ " قَدْ أَتَت الرِّوَايَة بِهَذَا اللَّفْظ وَمَا
1 / 13
يُقَارِبه من جِهَات كَثِيرَة، وَقيل: إِنَّهُ عَلَى عُمُومه، وَجَاء فِي بَعْض هَذِهِ الْأَخْبَار: من كذب عليّ مُتَعَمدا ليضلّ بِهِ النّاس، وروى أَنَّهُ ورد عِنْدَ قصَّة خَاصَّة فِي رَجُل ادّعى عِنْدَ قَوْمٍ أنَّ النَّبيّ ﷺ أرسلهم إِلَيْهِ ليزوجوه، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغَوِيُّ: قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْحَمَاقِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُنِيرٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ حَيَّانَ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَتَى رَجُلٌ إِلَى قَوْمٍ فِي جَانِبِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَمَرَنِي أَنْ أَحْكُمَ فِيكُمْ بِرَأْيِي فِي كَذَا وَكَذَا، وَكَانَ خَطَبَ امْرَأَةً مِنْهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَبَوْا أَنْ يُزَوِّجُوهُ، ثُمَّ ذَهَبَ حَتَّى نَزَلَ عَلَى الْمَرْأَةِ فَبَعَثَ الْقَوْمُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: " كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ " ثُمَّ أَرْسَلَ رَجُلا فَقَالَ: " إِنْ أَنْتَ وَجَدْتَهُ حَيًّا فَاقْتُلْهُ، وَإِنْ وَجَدْتَهُ مَيِّتًا فَحَرِّقْهُ "، فَانْطَلَقَ فَوَجَدَهُ قَدْ لُدِغَ فَمَاتَ فَحَرَّقَهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: " مِنْ كذب عَليّ مُتَعَمدا فَليَتَبَوَّأ معقده مِنَ النَّارِ "
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شُعْبَةَ الأَنْصَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ حَيَّانَ الْوَاسِطِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ عَدِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَدِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ حَيَّانَ، عَنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: " مِنْ كذب عَليّ مُتَعَمدا فَليَتَبَوَّأ معقده مِنَ النَّارِ " كَانَ حَيٌّ مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى مِيلٍ أَوْ مِيلَيْنِ فَأَتَاهُمْ رَجُلٌ عَلَيْهِ حُلَّةٌ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَسَانِي هَذِهِ الْحُلَّةَ وَأَمرَنِي أَن أحكم نِسَائِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ بِمَا أَرَى، وَكَانَ قد خطب امْرَأَة مِنْهُم فَأَبَوْا أَنْ يُزَوِّجُوهُ، قَالَ: فَأَرْسَلُوا رَسُولا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ إِنَّك أمرت هَذِه أَنْ يَحْكُمَ فِي نِسَائِنَا وَأَمْوَالِنَا بِمَا يَرَى، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: " كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ " ثُمَّ قَالَ لِرَجُلٍ: اذْهَبْ فَإِنْ وَجَدْتَهُ حَيًّا فَاضْرِبْ عُنُقَهُ، وَإِن وجدته قد مَاتَ فَأحرق بِالنَّارِ، وَمَا أَرَاكَ تَجِدُهُ حَيًّا، قَالَ: فجَاء فَوَجَدته قَدْ لَدَغَتْهُ حَيَّةٌ أَوْ أَفْعَى فَمَاتَ، فَذَلِكَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: " مِنْ كذب عَليّ مُتَعَمدا فَليَتَبَوَّأ معقده مِنَ النَّارِ " حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ أَبُو حَامِدٍ الْحَضْرَمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا السَّرِيُّ بْنُ مَزْيَدٍ الْخُرَاسَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْفَزَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ الزِّبْرِقَانِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ قَالَ يَوْمًا لأَصْحَابِهِ: أَتَدْرُونَ مَا تَأْوِيلُ هَذَا الحَدِيث: " من كذب عَلَيَّ مُتعمدًا فَليَتَبَوَّأ معقده مِنَ النَّارِ "؟ قَالَ: رَجُلٌ عَشِقَ امْرَأَةً فَأَتَى أَهْلَهَا مَسَاءً، فَقَالَ: إِنِّي رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ أَنْ أَتَضَيَّفَ فِي أَيِّ بُيُوتِكُمْ شِئْتُ، قَالَ: فَكَانَ يَنْتَظِرُ بَيْتُوتَةً إِلَى الْمَسَاءِ، قَالَ: فَأَتَى رَجُلٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: إِنَّ فُلانًا أَتَانَا يَزْعُمُ أَنَّكَ أَخْبَرْتَهُ أَنْ يَبِيتَ فِي أَيِّ بُيُوتِنَا شَاءَ، فَقَالَ: كَذَبَ، يَا فُلانُ انْطَلِقْ مَعَهُ فَإِنْ أَمْكَنَكَ اللَّهُ مِنْهُ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ وَأَحْرِقْهُ بِالنَّارِ، وَلا أُرَاكَ إِلا قَدْ نَعَيْتَهُ، فَلَمَّا خَرَجَ الرَّسُولُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ادْعُوهُ، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: إِنِّي قَدْ كُنْتُ أَمَرْتُكَ أَنْ تَضْرِبَ عُنُقَهُ وَأَنْ تُحَرِّقَهُ بِالنَّارِ، فَإِنْ أَمْكَنَكَ اللَّهُ مِنْهُ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ وَلا تُحَرِّقْهُ بالنَّار، فَإِن لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلا رَبُّ النَّارِ وَلا أُرَاكَ إِلا قَدْ كُفِيتَهُ، فَجَاءَتِ السَّمَاءُ
1 / 14
فَصَبَّتْ فَخَرَجَ لِيَتَوَضَّأَ فَلَسَعَتْهُ أَفْعَى، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: هُوَ فِي النَّارِ، وَقَوْلُهُ فَلْيَتَبَوَّأْ أَيْ فَلْيُوَطِّنْ نَفْسَهُ وَيَعْلَمْ أَنَّهُ تَبَوَّأَ معقده من النَّار أَي تكون لنار مُبَوَّأً لَهُ، كَمَا قَالَ اللَّهُ: " بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ " أَيْ جَعَلْنَاهَا مَنْزِلا لَهُمْ، قَالَ ابْنُ هِرْمَةَ:
وَبُوِّئْتُ فِي صَمِيمِ معشرها ... فتمَّ فِي قَومهَا مُبوَّؤُهَا
وَقَالَ بَعْضُ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ يُخَاطِبُ الْفَرَزْدَقَ:
لَقَدْ بوَّأتك الدَّارَ بكرُ بْنُ وائلٍ ... وَقَرَّتْ لَكَ الأحشاءُ إِذْ أَنْتَ مُحْرِمُ
وَقَول اللَّه تَعَالَى: " وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لنبَوِّئّنَهم مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا " من هَذَا الْبَاب، وَكَذَلِكَ قَرَأَ جُمْهُور أَهْلَ الْحجاز وَالشَّام وَالْبَصْرَة والكوفة، وَقَرَأَ عدد من الْكُوفِيّين مِنْهُم حَمْزَة وَالْكسَائِيّ: لنثوينهم من الثواء، كَمَا قَالَ الْحَارِث بْن حلزة:
آذنَنْتَنا بِبَيْنِهَا أسْمَاءُ ... رُبَّ ثاوٍ يملُّ مِنْهُ الثُّواءُ
وَفِي تصريف الْفِعْل من هَذَا لُغَتَانِ يُقَالُ: ثوى يثوي وأثوى يثوي، ويروى بَيت الْأَعْشَى عَلَى وَجْهَيْن:
أثْوَى وقَصّر ليلةٌ ليُزَوَّدَا ... فَحَنى وأخلفَ من قُتَيْلةَ موعِدا
ويروى أثوى عَلَى الْوَجْه الرباعي، ويروى أَثَوى بِلَفْظ الِاسْتِفْهَام عَلَى أَنَّهُ ثلاثي، وَلَو قيل ثوى من غَيْر تَقْدِيم عَلَى أَن يكون الْجُزْء الأوّل من الْبَيْت مخروما لَكَانَ ذَلِكَ صَوَابا.
ذكر بعض نَوَادِر الْأَخْبَار
مَجْنُون بني سَعْد
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ إملاءً من حَدِيثه سنة سِتّ وَعشْرين وثلثمائة، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الْمَرْزُبَان، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن سَعِيد بْن صَالح الْيَشْكُرِي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن محبّ الْمَازِنِيّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: لمّا قَدِمَ سُلَيْمَان بْن عليّ الْبَصْرَة واليًا عَلَيْهَا قيل لَهُ: إنَّ بالْمِرْبد رَجلا من بني سَعْد، مَجْنُونا سريع الْجَواب لَا يتَكَلَّم إِلَّا بالشعر، فَأرْسل إِلَيْهِ سُلَيْمَان بْن عليّ قَهْرمانه، فَقَالَ لَهُ: أجب الْأَمِير، فَامْتنعَ فجرّه وَزبَره، وخرَّق ثَوْبه، وَكَانَ الْمَجْنُون يَسْتَقِي عَلَى نَاقَة لَهُ فاستاق القهرمان النَّاقة وأتى بهَا سُلَيْمَان بْن عليّ، فَلَمّا وقف بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ لَهُ سُلَيْمَان، حيّاك اللَّه يَا أَخا بني سَعْد، فَقَالَ:
حيّاك ربُّ النّاس من أَمِير ... يَا فاضلَ الأَصْل عَظِيم الخيرِ
إِنِّي أَتَانِي الفاسِقُ الجلْوازُ ... والقلبُ قَدْ طَار بِهِ اهتزازُ
فَقَالَ سُلَيْمَان: إنّما بعثنَا إِلَيْكَ لنشتري نَاقَتك، فَقَالَ:
مَا قَالَ شَيْئا فِي شِرَاء الناقهْ ... وَقد أَتَى بِالْجَهْلِ والحماقةْ
فَقَالَ: مَا أَتَى؟ فَقَالَ:
خَرّق سِرْبالي وشَقّ بُرْدتي ... وَكَانَ وَجْهي فِي الملا وزيني
1 / 15
فَقَالَ: أفتعزم على النَّاقة؟ فَقَالَ:
أبيعُها بَعْدَ مَا أُوكَسُ ... والبيعُ فِي بَعْض الأوان أَكيس
قَالَ: كم شراؤها عَلَيْكَ؟ فَقَالَ:
شراءها عشرٌ بِبَطن مكهْ ... من الدَّنَانِير الْقيام السُّكهْ
وَلَا أبيعُ الدهرَ أَو أزادُ ... إنّي لريحٍ فِي الورى مُعْتَاد
قَالَ: فبكم تبيعها؟ فَقَالَ:
خُذْها بعشرٍ وبخمسٍ وازنهْ ... فَإِنَّهُ نَاقَة صدق مَازنه
قَالَ: فحطّنا، فَقَالَ:
تبَارك اللَّه العليُّ العالي ... تَسْألُني الحطّ وَأَنت الْوَالِي
قَالَ: فنأخذها مِنْك وَلَا نعطيك شَيْئا، فَقَالَ:
فَأَيْنَ ربِّي ذُو الْجلَال الْأَفْضَل ... إنَّ أنتَ لَمْ تَخْشَ الْإِلَه فافعلِ
قَالَ: فكم أزنُ لَك فِيهَا؟ فَقَالَ:
وَالله مَا يُنعِشُني مَا تُعطي ... وَلَا يُدَاني الْفقر مني حطّي
خُذْهُ بِمَا أحببتَ يَا بْن عباسِ ... يَا بْن الْكِرَام من قريشِ الرّاسِ
فَأمر لَهُ سُلَيْمَان بِأَلف دِرْهَم وَعشرَة أَثوَاب، فَقَالَ:
إِن رَمَتْنِي نَحْوك الْفِجَاجُ ... أَبُو عيالٍ مُعْدَمٌ محتاجُ
طَاوي الْمِعَى ضَيّق المعيشِ ... فأنبتَ اللَّه لديك ريشي
شَرّفتني مِنْك بألفٍ فاخره ... شَرَّفَك اللَّهُ بهَا فِي الآخِرَة
وكسوةٍ طاهرةٍ حسانِ ... كساك رَبِّي حلل الجنانِ
التَّعْلِيق عَلَى الْخَبَر
فَقَالَ سُلَيْمَان: من يَقُولُ إنَّ هَذَا مَجْنُون؟ مَا كلمتُ قَطّ أَعْرَابِيًا أَعقل مِنْهُ.
قَول الأَعْرَابِي: ضيق المعيش، المعيش جمع معيشة، كَمَا قَالَ رؤبة:
أَشْكُو إِلَيْكَ شدَّة المعيش ... ومرِّ أعوامٍ نَتَفْنَ رِيشِي
وَيكون المعيش الْموضع والمعاش الْمصدر، مثل المَضربِ والْمِضرَب وَالْمقر وَالْمقر.
قَالَ القَاضِي أَبُو الفَرَج: قَدْ أنهينا هَذَا الْمجْلس إِلَى هُنَا لِئَلَّا يستطال، إِذْ قَدْ تقدمته خطبةٌ ورسالة، وَالله الْمُسْتَعَان.
الْمجْلس الثَّانِي
حَدِيث جريج
حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بن سُلَيْمَان أَبِي دَاوُدَ بْنِ الأَشْعَثِ السِّجِسْتَانِيُّ إِمْلاءً مِنْ حِفْظِهِ، فِي يَوْمِ الثُّلاثَاءِ لأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ شَعْبَانَ سنة سِتّ عشرَة وثلثمائة، قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بن
1 / 16
يزِيد، قَالَ: أَخْبرنِي أَي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَوْذَبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَطَرٌ، قَالَ: وَلا أَعْلَمُ سَنَدَهُ إِلا عَنِ الْحسن بن أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُ جُرَيْجٌ، وَكَانَ صَاحِبَ صَوْمَعَةٍ قَالَ: فَاشْتَاقَتْ أُمُّهُ إِلَيْهِ فَأَتَتْهُ حَتَّى قَامَتْ عِنْدَ صَوْمَعَتِهِ، فَنَادَتْهُ: أَيْ جُرَيْجُ! أَيْ جُرَيْجُ! وَهُوَ قَائِم يُصَلِّي، ف فَلَمَّا سَمِعَ النِّدَاءَ فَعَرَفَ الصَّوْتَ أَمْسَكَ عَنِ الْقِرَاءَةِ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ! صَلاتِي أَوْ أُمِّي، ثُمَّ قَالَ: رَبِّي أَعْظَمُ عَلَيَّ حَقًّا مِنْ أُمِّي، قَالَ: فَمَضَى فِي صَلاتِهِ، ثُمَّ نَادَتْهُ الثَّانِيَةَ فَفَعَلَ أيضاَ مِثْلَهَا، وَقَالَتِ الثَّالِثَةَ، فَفَعَلَ أَيْضا مثلهَا وَلَمْ يُشْرِفْ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ كَمَا لَمْ يُرِنِي وَجْهَهُ فَابْتَلِهِ بِنَظَرِ الْمُومِسَاتِ فِي وَجْهِهِ، فَحَمَلَتِ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ مِنْ فَاحِشَةٍ فَوَلَدَتْ، فَقِيلَ لَهَا: مِمَّنْ هَذَا؟ قَالَتْ: صَاحِبُ الصَّوْمَعَةِ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ: هَذَا صَاحِبُ صَوْمَعَةٍ، وَهُوَ يَفْعَلُ مِثْلَ هَذَا؟ فَأَمَرَ أَهْلَ الْقَرْيَةِ فَأَخَذُوا الْفُئُوسَ وَالْمَسَاحِيَ، حَتَّى أَتَوْهُ فَنَادَوْهُ وَهُوَ فِي صَلاتِهِ فَلَمْ يُكَلِّمْهُمْ، قَالَ: فَقَالُوا: ضَعُوا الْفُئُوسَ فِي الصَّوْمَعَةِ فَضَرَبُوا حَتَّى كَادَتْ أَنْ تَمِيلَ، قَالَ: فَأَشْرَفَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: مَاذَا تُرِيدُونَ؟ مَالِي وَلَكُمْ؟ فَقَالُوا: أَنْتَ فِي الصَّوْمَعَةِ وَأَنْتَ تُحْبِلُ النِّسَاءَ؟ فَقَالَ: أَنَا؟ فَنَزَلَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى ثُمَّ جَاءَ إِلَى الصَّبِيِّ وَلَمَّا يَتَكَلَّمْ فَضَرَبَ قَفَاهُ وَقَالَ: مَنْ أَبُوكَ؟ قَالَ: صُهَيْبٌ صَاحِبُ الضَّأْنِ، وَكَانَ صُهَيْبٌ رَجُلا يَرْعَى الْغَنَمَ يَأْوِي إِلَى الصَّوْمَعَةِ، قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: " وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ دَعَتِ اللَّهَ أَنْ يَفْتِنَهُ عَنْ دِينِهِ لأَفْتَنَهُ عَنْ دِينِهِ ". وَقَدْ رُوِيَ خَبَرُ جُرَيْجٍ عَنْ طَرِيقٍ آخَرَ، وَذُكِرَ فِيهِ أَنَّ الصَّوْمَعَةَ هُدِّمَتْ وَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: نَبْنِيهَا لَكَ لَبِنَةً مِنْ فِضَّةٍ وَلَبِنَةً مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ: بَلْ رُدُّوهَا كَمَا كَانَتْ.
التَّعْلِيق عَلَى الْخَبَر
قَوْله فِي الْخَبَر: الْمُومِسات هُوَ جمع مُومسة وَهِي الْبَغي الْفَاجِرَة، فَإِن قَالَ قَائِل: كَيْفَ دعت أمه عَلَيْهِ واستجيب لَهَا فِيهِ؟ وَهُوَ لَمْ يقْصد عقوقها، وَلم يتْرك إجابتها تهاونًا بهَا، وَلَا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهَا، وَإِنَّمَا آثر مرضاة اللَّه عَلَى أمرهَا، وإتمام صلَاته الَّتِي ابتدأها، إِمَّا مُؤديا الْفَرْض فِيهَا، وَإِمَّا مُتَطَوعا بِفِعْلِهَا، قيل لَهُ: جَائِز أَن يكون الْكَلَام فِي شريعتهم كَانَ جَائِزا فِي صلَاته كَمَا كَانَ فِي أول الإِسْلام ثمَّ نسخ مَا أُبِيح مِنْهُ بحظره، وَالنَّهْي عَنْهُ، عَلَى مَا وَردت الْأَخْبَار بِهِ، وَجَاء أنَّ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود أخبر أَنَّهُ كَانَ يسلّم بَعضهم عَلَى بَعْض فِي الصَّلاة فَيرد عَلَيْهِ، وَأَنه ذَكَرَ أَنه حِين قَدِمَ من أَرض الْحَبَشَة سلم عَلَى النَّبيّ ﷺ وَهُوَ فِي الصَّلاة فَلم يرد عَلَيْهِ، وَأَنه قَالَ: فأخذني مَا قرب وَمَا بَعْدَ، وَقَالَ النَّبيّ ﷺ حِين فرغ من صلَاته: أعوذ بِاللَّه من غضب اللَّه وَغَضب رَسُوله، سلمت عَلَيْك فَلم ترد، فَقَالَ: إِن اللَّه يحدث من أمره مَا شَاءَ، وَأَنه مِم أحدث " أَلا تَكلّموا فِي الصَّلاة " وَأَن يكون جريج رَأَى وَإِن كَانَت إجَابَته فِي أمه جَائِزَة فِي صلَاته أَوْ غَيْر قَاطِعَة لَهَا - بِأَن الْمُضِيّ عَلَى الصَّلاة أولى من إجابتها، وجائزة أَن يكون الْقَوْم قَدْ فرض عَلَيْهِمْ إِجَابَة أمهاتهم فِي الصَّلاة إِذَا
1 / 17
دعونهم وَإِن كَانُوا فِي صلَاتهم، فَترك ذَلِكَ جريج لتفريط مِنْهُ وَفِي فعله أَو الْعلم بِهِ، وَقد روى عَنِ النَّبيّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: " لَو نادني أحدُ أبويَّ وَأَنا فِي الصَّلاة فَقَالَ يَا مُحَمَّد لأجبته "، وَهَذَا مُحْتَمل أَن يكون عَلَى بَعْض الْوُجُوه الْمَخْصُوصَة أَو المنسوخة، وَجَائِز أَن يكون أَرَادَ لأجبته بالتسبيح ليعلم أَنِّي قَدْ سمعته أَوْ فِي هَذِهِ الْحَال بالتصفيق، وَقَالَ: التَّسْبِيح للرِّجَال والتصفيق للنِّسَاء، وروى عَنِ النَّبيّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ لبَعض من ناداه وَهُوَ يُصَلِّي فَلم يجبهُ فَقَالَ: مَا مَنعك أَن تُجِيبنِي؟ فَقَالَ: إِنِّي كنت أُصَلِّي فَقَالَ: ألم تسمع قَول اللَّه ﷿: " اسْتجِيبُوا لله وَلِرَسُولِهِ إِذا دعَاكُمْ " وروى أنَّ إِبْرَاهِيم النّخَعي سُئِلَ عَمَّن شَمّت رَجُلا فِي الصَّلاة، فَقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يقل إِلَّا مَعْرُوفا، وَالْقَوْل فِي هَذَا النَّحْو مستقصى فِيمَا ألفناه من كتبنَا فِي الْفِقْه.
حُرُوف المقاربة
وَقَوله فِي هَذَا الْخَبَر: حَتَّى كَادَت أَن تميل.. الظَّاهِر فِي كَلَام الْعَرَب أَن يَقُولُوا كَادَت تميل من غَيْر أَن يَأْتُوا بِأَن، وَكَاد هَذِهِ من حُرُوف المقاربة، فَقَالَ: كَاد فلَان يهْلك وَكَاد يفعل كَذَا، قَالَ اللَّه ﷿: " تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ " وَقَالَ: " فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ "، وَقَالَ: " كَانُوا يكونُونَ عَلَيْهِ لبدا " فِي نَظَائِر لهَذَا كَثِيرَة، وَقد تَقول الْعَرَب: كَاد أَن يفعل، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
كَادَت النّفْسُ أَن تفيضَ عَلَيْهِ ... إِذْ ثَوَى حَشْوَ رَيْطةٍ وبُرُودِ
وَقَالَ الراجز:
قَدْ كادَ من طُولِ الْبِلَى أَن يَمْصَحَا
فَكَأَنَّهُ أدخلها فِي بَاب عَسى كَمَا أَدخل عَسى عَلَيْهَا الْقَائِل من الشّعراء:
عَسَى الكربُ الَّذِي أمسيتُ فِيهِ ... يكونُ وَرَاءه فرجٌ قريبُ
وَقَالَ آخر:
عَسى اللَّهُ يُغْنِي عَنْ بلادِ ابْن قادرٍ ... بمنهمرٍ جَوْنِ الرَّبَابِ سكوبِ
وَقَالَ آخر:
عَسَى فرجٌ يأتِي بِهِ اللَّهُ إِنَّهُ ... لَهُ كلّ يومٍ فِي خليقته أمْرُ
وَمثل هَذَا لَعَلَّ، الْبَاب فِيهَا لعلى الْقَوْم، قَالَ الله: " لَعَلَّكُمْ تفلحون "، وَقَالَ: " لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى "، وَقد تدخلُ عَلَى بَاب عَسى لاشتراكها فِي بَاب الترجِّي والمقاربة والتوقع، وَذَلِكَ قَول الشَّاعِر:
تَتَبعْ خبايا الأَرْضِ وَادْعُ مَليكَها ... لَعَلَّكَ يَوْمَا أَنْ تُجَابَ وَتُرْزَقا
وَقَالَ آخر:
ترفق أَيهَا القمرُ الْمُنِير ... لعلّك أَن تَرَى حُجْرًا يسيرُ
1 / 18
وَقَالَ آخر:
لعلِّيَ إنْ مالَتْ بِيَ الرِّيحُ مَيْلَة ... عَلَى ابنِ أبي ذُبَّان أَن يَتَندّما
وَقد تَأتي كَاد بِمَعْنى الْإِرَادَة لاشْتِرَاكهمَا فِي معنى المقاربة، كَقَوْلِك: كَاد الْحَائِط أَن يمِيل، وضربه حَتَّى كَاد أَنْ يَمُوت، أَي أَرَادَ أَن يمِيل وَأَن يَمُوت، وَقَالَ الشَّاعِر فِي هَذَا الْمَعْنى:
كَادَت وَكِدْتُ وَتلك خيرُ إِرَادَة ... لَوْ عَاد من وَصْلِ الحبيبةِ مَا مضى
وَقد قيل فِي قَول اللَّه: " إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أخفيها " أنَّ مَعْنَاهُ أكاد أقيمها، فَحذف. ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: أخفيها وَأَن الْكَلَام انْتهى إِلَى أكاد، وَأَنه وقف تَامّ، وأخفيها ابْتَدَأَ كَأَنَّهُ قَالَ: أخفيها لِتُجْزَى، لتجزي إِخْبَار بصلَة الْفِعْل الَّذِي هُوَ الْإخْفَاء.
وَقَرَأَ بَعْض الْقُرَّاء: أكاد أخفيها بِفَتْح الْهمزَة بِمَعْنى أُظْهرها، يُقَال: خفيت الشَّيْء إِذا أظهرته وأخفيته إِذا سترته، وروى النَّبيّ ﷺ أَنَّهُ: " لعن المختفي والمختفية " يَعْنِي النباش والنباشة، سميا بذلك لإظهارهما مَا ستر بالمواراة والإخفاء والدفن، وَرويت هَذِهِ الْقِرَاءَة عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر وَغَيره، وَمن هَذَا الْمَعْنى قَول الشَّاعِر:
دَابَ شَهْرَيْن ثُمَّ شَهْرًا دَبِيكَا ... بَاركين يَخفيان غَمِيرًا
وَقَالَ آخر:
فَإِن تَكْتُمُوا الداءَ لَا نَخْفهِ ... وإنْ تبعثُوا الْحَرْبَ لَا نَقْعُدِ
وَقَالَ امْرُؤ الْقَيْس:
خَفَاهُنَّ من أنفاقهن كأنّمَا ... خفَاهُنَّ ودقٌ من عشيٍّ مجلبُ
وخفيت وأخفيت جَمِيعًا يرجعان إِلَى أصل وَاحِد، خفيت أَي أزلت الْإخْفَاء وأخفيت أَي فعلت الْإخْفَاء، وَنحن نبين مَا فِي هَذِهِ الْكَلِمَة من الْقُرْآن والمعاني ووجوه التَّفْسِير وَطَرِيق الْإِعْرَاب والتأويل فِي موَاضعه من كتبنَا فِي الْقُرْآن إِن شَاءَ اللَّه.
وأمّا قَول جريج للصَّبِيّ: من أَبُوك؟ فقد يسْأَل السَّائِل فَيَقُول: كَيفَ من قَالَ من أَبوك والعاهر لَيْسَ بأب لمن أَتَت بِهِ البغيُّ من مَائه فِي حكم الشَّرِيعَة؟ قيل: فِي هَذَا وَجْهَان من التَّأْوِيل أَحدهمَا: أَنَّهُ جائزٌ أَن يكون فِي شَرِيعَة هَؤُلَاءِ الْقَوْم إِلْحَاق ولد العاهر بِهِ إِذَا حملت أمه بِهِ مِنْهُ.
وَالْوَجْه الآخر: أَن يكون جريج قَالَ هَذِه عَلَى وَجه التَّمْثِيل أَوْ كنى بِهِ تَنْزِيها لألفاظه عَلَى جِهَة التَّشْبِيه، فقد تُضَاف الْأُبُوَّة لفظا من طَرِيق التجاوز والاستعارة إِلَى من لَيست لَهُ ولادَة وَلَا نسب بَينه وَبَين من ينْسب إِلَيْهِ وَلَا قرَابَة، فَيُقَال: فلَان أَبُو الأرامل واليتامى إِذَا كفلهم وبرّهم ووصَلَهم، وَقَامَ بتدبير أُمُورهم وكَنَفَهُم كَفعل الْآبَاء الْوَالِدين لمن ولدُوا من الْبَنِينَ.
وَقد روى فِي بَعْض قراءات من رويت عَنْهُ الْقِرَاءَة من الْمُتَقَدِّمين " النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ من أنفسهم وَهُوَ أَب لَهُم وأزواجه أمهاتهم " وَعبر عَنِ الْأزْوَاج بأنهن للْمُؤْمِنين أُمَّهَات
1 / 19
توكيدًا لحرمتهن وَدلَالَة على تأبيد تَحْرِيم نِكَاحهنَّ عَلَى غَيْر النَّبيّ ﷺ، وَفِي ذَلِك استقصاء هَذِه الْبَاب وَمَا يُنَاسِبه ويتصل بِهِ طول.
وَقَوله: " وَلما يتَكَلَّم " هَذِهِ لَم الجازمة دخلت عَلَيْهَا مَا وَقيل: إِنَّهَا تَأتي لنفي حُضُور شَيْءٍ منتظر متوقع وَقيل: بل هِيَ عَلَى طَرِيق لَمْ وَإِن ضمت إِلَيْهَا مَا كَمَا هِيَ فِي: إنَّ تقم أقِم، وَإِمَّا تقم أقِم، وَلِهَذَا النَّحْو مَوضِع هُوَ أولى بِهِ.
وأمّا قَول النَّبيّ ﷺ: " لَوْ دَعَتِ اللَّهَ أَنْ يَفْتِنَهُ عَنْ دِينِهِ لأَفْتَنَهُ عَنْ دِينِهِ " فَالَّذِي أحفظ عَنِ ابْن أبي دَاوُد أَنَّهُ قَالَ فِي هَذَا الحَدِيث هَكَذَا أَن يَفتنه، وَقَالَ لأفتنه، وَفِي تصريف الْفِعْل من الْفِتْنَة عَلَى تشعب مَعَانِيهَا وَاخْتِلَاف وجوهها لُغَتَانِ: يُقَالُ: فتنه يفتنه عَلَى وزن فعل يفعل وَهَذِه أَعلَى اللغتين وأفصحهما، وَبهَا جَاءَ كتاب اللَّه تَعَالَى فِي جَمِيع الْقُرْآن، من ذَلِكَ: " لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَان "، وَقَوله " عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وملأهم أَن يفتنهم " وَقَوله: " وَظن دَاوُود أَنما فتناه " بِمَعْنى امتحناه، وأضاف هَذِه إِلَيْهِ جلّ ذكره، وَقد قرئَ أَنما فَتَنَاه بِالتَّخْفِيفِ عَلَى تَوْجِيه الْفِعْل إِلَى الْملكَيْنِ، وَقَالَ تَعَالَى: " وَلَكِنَّكُمْ فتنتم أَنفسكُم " وَقَالَ: " إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ".
واللغة الثَّانِيَة فِي هَذِهِ الْكَلِمَة هِيَ أقلُّهما فِي كَلَام الْعَرَب وَهِي: أفتنه يفتنه عَلَى أفعل يفعل.
فَإِن كَانَ مَا روى لَنَا فِي هَذَا الحَدِيث عَلَى اللَّفْظ الَّذِي وَصفنَا مَحْفُوظًا عِنْدَ رُوَاته وَمن أَدَّاهُ إِلَيْنَا فَإِنَّهُ ممّا جمع فِيهِ بَيْنَ اللغتين.
الْجمع بَيْنَ اللغتين
وَالْجمع بَيْنَ اللغتين كثير فِي كَلَام الْعَرَب، وَقد جَاءَ مِنْهُ فِي كتاب اللَّه عزَّ ذكره على تجَاوز واتصال، وتراح وانفصال، فَمن الْمُتَّصِل قَوْله: " فَمَهِّلِ الْكَافرين أمهلهم "، وَمن الْمُنْفَصِل قَوْله فِي السُّورَةِ الَّتِي يَذْكُرُ فِيهَا الْأَنْفَال: " وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ " على إِظْهَار التَّضْعِيف، وَفِي سُورَة الْحَشْر " وَمن يشاق إِلَى الله " بِالْإِدْغَامِ، وَمثله " فليملل وليه " عَلَى لُغَة من يَقُولُ: أمللت الْكتاب فَأَنا أملهُ، وَقَوله: " فَهِيَ تملي عَلَيْهِ "، من أمليته أمليه، وَقَالَ الشَّاعِر فِي الْجمع بَيْنَ اللغتين:
لَئِنْ فتنتني لهي بالْأَمْس أفتنت ... سعيدًا فَأَضْحَى قَدْ قَلَى كلّ مُسْلِم
وَمن الْجمع بَيْنَ اللغتين قَول لبيد:
سَقَى قَوْمِي بني مَجْدٍ وَأسْقَى ... عُمَيْرًا وَالْقَبَائِلَ مِنْ هِلالِ
وَقَالَ آخر:
يَا بن رُفَيع هَلْ لَهَا من مَغْبَقِ ... هَل أَن سَاقيهَا سقاك المسُقّي
وَقرن بَعضهم بَيْنَ الْمَعْنيين فِي اللغتين فَقَالَ: سقيته أَي ناولته مَاء لشفته، وأسقيته إِذَا
1 / 20
جعلت لَهُ شربًا دَائِما، وَيُقَال أسقيته إِذَا دَعَوْت لَهُ بالسُّقيا.
كَمَا قَالَ ذُو الرومة:
وَقَفَتْ عَلَى ريعٍ لميَّةَ نَاقَتِي ... فَمَا زلتُ أبْكِي عِنْدَهُ وأخاطبه
وأسقيه حَتَّى كَاد ممّا أبثُّه ... تكلمني أحجاره وملاعبه
وَيُقَال: سقيته فَشرب، وأسقيته جعلت لَهُ مَاء وسقيا.
قَالَ الْخَلِيل: سقيته مثل كسوته وأسقيته مثل ألبسته، ولاستقصاء الْكَلَام فِي هَذَا وَفِي هَاتين اللغتين وَهل هما بِمَعْنى وَاحِد أَوْ بمعنيين، وَفِي مَا اخْتلف نسخ كتاب سِيبَوَيْهٍ فِيهِ من التَّفْسِير والتمييز لَهُ، وَفِي اخْتِلَاف الْقِرَاءَة بِمَا أَتَى مِنْهُ فِي مواضيع من الْقُرْآن مُتَّفق اللَّفْظ أَوْ مختلفُه فِي مَوَاضِع مُخْتَلفَة كَقَوْلِه: " نسقيكم مِمَّا فِي بطونها " بِالْفَتْح فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى أَنَّهُ من سَقَى يُسْقِي بِالضَّمِّ من لُغَة من قَالَ: أسْقَى يُسْقِي، وَفِي تَفْرِيق من فَرّق بَيْنَ الْقِرَاءَة فِي هذَيْن الْمَوْضِعَيْنِ وَبَينهَا فِي قَوْله: " وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أنعامًا " وَجمع من جمع فِي الْفَتْح وَالضَّم طولٌ يتَجَاوَز حدّ مَا قصدناه بكتابنا هَذَا وَبَيَانه فِي مَوَاضِع من كتبنَا فِي عُلُوم الْقُرْآن.
معنى الْفِتْنَة
وللفتنة وُجُوه مِنْهَا الصّرْف عَنِ الشَّيء وَمِنْه هَذَه الْكَلِمَة، وأفتنته مثل حزنته، وَمذهب سِيبَوَيْهٍ أنَّ من قَالَ: فتنته أَرَادَ جعلت فِيهِ فتْنَة، وَمن قَالَ: أفتنته أَي جعلته فاتنًا، يُقَالُ وَفتن الرَّجُل فَهُوَ فاتن، وَقَالَ سِيبَوَيْهٍ: وَزعم الْخَلِيل أنَّكَ حَيْث قلت فتنته وحزَنته لَمْ تُرِدْ أنَّ تَقول جعلتُه دَاخِلا، وَلَكِنَّك أردْت أنَّ تَقول جعلتُ فِيهِ حُزْنًا وفتنة، فَقلت فتْنَة كَمَا قلت كحلته جعلت فِيهِ كُحلا، ودهنته جعلت فِيهِ دُهْنًا، وَقَالَ الْجرمي: سَمِعت أَبَا زَيْدُ يَقُولُ: حَزَنَني الْأَمر حُزْنًا وحَزْنا وَأَنا حَزِين ومَحْزون، وَهَذَا مثل: جريح ومجروح وقتيل ومقتول، وَقَالَ سِيبَوَيْهٍ: كلهم يَقُولُ: أحزنني الْأَمر فَإِذا صَار إليَّ يفعل فَفِيهَا لُغَتَانِ، يَقُولُ قَوْمٍ: يحزنني عَلَى غَيْر قِيَاس، وَيَقُول قَوْمٍ: يحزنني عَلَى قِيَاس، وأمّا الْقُرَّاء فَلم يزدْ فِي هَذَا عَلَى أَن ذَكَرَ فِي حزن يحزن وأحزن يحزن لغتين.
وَقد اخْتلفت الْقِرَاءَة فِي اللَّفْظ بِهَذِهِ الْكَلِمَة فِي الْقُرْآن، فَكَانَ أَبُو جَعْفَر الْمدنِي يقْرَأ لَا يحزنك الدَّين، وَإنَّهُ ليحزنك، وأيها الرَّسُول لَا يحزنك الدَّين، وَإِنِّي ليحزنني أَن تذْهبُوا بِهِ، ويستمرّ عَلَى هَذَا فِي الْقُرْآن كُله إِلَّا فِي قَوْله: وَلَا يحزنهم الْفَزع الْأَكْبَر، فَإِنَّهُ يضم الْيَاء فِيهِ، وأمّا نَافِع فعلى عكس هَذَا الْمَذْهَب لأنَّه ضم مَا فَتحه أَبُو جَعْفَر فِي هَذَا الْبَاب وَفتح مَا ضمه، وَكَانَ ابْن مُحَيْصِن يضم ذَلِكَ كُله، وَكَانَ الْجُمْهُور من الْقُرَّاء بعده يفتحون الْجَمِيع وَفِي استقصاء هَذِه الْمَعْنى وَذكر مَا يتَّصل لَهُ لتفريق من فرق بَيْنَ بعضه وَبَين بَعْض، والاحتجاج فِيمَا اخْتلف المقرئون فِيهِ مَوَاضِع جمة من كتبنَا فِي عُلُوم الْقُرْآن، نأتي عَلَى الْبَيَان عَنْهُ إِن شَاءَ اللَّه ﷿.
1 / 21
من نزلت فِيهِ هَذِهِ الْآيَة
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْحُمَيْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بن عينة، عَن أبي سعد، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: " وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا " قَالَ: هُوَ رَجُلٌ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أُعْطِيَ ثَلاثَ دَعَوَاتٍ يُسْتَجَابُ لَهُ فِيهِنَّ مَا يَدْعُو بِهِ، وَكَانَ لَهُ امْرَأَةٌ لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ وَكَانَ سَمِجَةً دَمِيمَةً، قَالَتِ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي أَجْمَلَ امْرَأَةٍ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَدَعَا اللَّهَ لَهَا، فَلَمَّا عَلِمَتْ أنْ لَيْسَ فِي بني إِسْرَائِيل أجمل مِنْهَا رَغِبَتْ عَنْ زَوْجِهَا وَأَرَادَتْ غَيْرَهُ، فَلَمَّا رَغِبَتْ عَنْهُ دَعَا اللَّهَ أَن يَجْعَلهَا كلبة نباحة، وَذَهَبت عَنهُ دَعْوَتَانِ، فَجَاءَ بَنُوهَا وَقَالُوا: لَيْسَ بِنَا عَلَى هَذَا صَبْرٌ أَنْ صَارَتْ أُمُّنَا كَلْبَةً نَبَّاحَةً يُعَيِّرُنَا النَّاسُ بِهَا، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يردهَا إِلَى الْحَال الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا أَوَّلا، فَدَعَا اللَّهَ فَعَادَتْ كَمَا كَانَتْ فَذَهَبَ فِيهَا الدَّعَوَاتُ الثَّلاثُ فَسُمِّيَتِ الْبَسُوسَ وَقِيلَ: أَشْأَمُ مِنَ الْبَسُوسِ.
قَالَ أَبُو الفَرَج: الْمَشْهُور عِنْدَ أَهْلَ السّير وَالْأَخْبَار أنَّ البسوس الَّتِي يُقَالُ من أجلهَا أشأم من البسوس، النَّاقة الَّتِي جرى فِيمَا جرى من أمرهَا حَرْب داحس والغبراء، وَالْمَعْرُوف من قَول جُمْهُور أَهْلَ التَّأْوِيل أنَّ قَوْله: " وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فانسلخ مِنْهَا " عَنَى بِهِ بلْعَم بْن بَاعُورَاء الَّذِي دَعَا للجبارين عَلَى مُوسَى وَبني إِسْرَائِيل، وَقَالَ بَعضهم: نزلت فِي أُميَّة بْن أبي الصَّلْت، وَلكُل وَاحِد من هذَيْن الَّذِي سميناهما حَدِيث طَوِيل وَقد جَاءَ الْخَبَر الَّذِي وَصفنَا مَا حكينا وَالله أعلم.
وَفِي هَذَا الْخَبَر، قَالَ: وَكَانَت سمجة بِكَسْر الْمِيم مثل بطرة، وَحكى سِيبَوَيْهٍ عَنِ الْعَرَب: رَجُل سَمْج بتسكين الْمِيم مثل سَمْح، وَقَالَ: فَقَالُوا: سميح كقبيح، قَالَ: وَلم يَقُولُوا سمح وَإِن كَانَت الْعَامَّة قَدْ أولعت بِهِ.
وَقَول الرَّاوِي فِي هَذَا الْخَبَر: يعيّرنا النّاس بهَا، الفصيح من كَلَام الْعَرَب: عيرت فلَانا كَذَا، وأمّا عيرته بِكَذَا فلغة مقصِّرة عَنِ الأولى فِي الاشتهار والفصاحة، وَإِن كَانَتْ هِيَ الْجَارِيَة عَلَى أَلْسِنَة الْعَامَّة، وَمن اللُّغَة الأولى قَول النَّابِغَة:
وعَيّرتْنِي بَنو ذُبْيان رهبتهُ ... وهَلْ عليَّ بِأَن أخشاك من عَارِ
وَقَالَ المتلمس:
يُعيِّرني أميِّ رجالٌ وَلَا أرى ... أخَا كرمٍ إِلا بِأَن يَتَكرَّمَا
وَقَالَ المقنّع الْكِنْديّ فِي اللُّغَة الْأُخْرَى:
يعرني بِالدّينِ قومِي وَإِنَّمَا ... تدانيت فِي أشياءَ تكسبهمْ مَجدا
أَقْوَال حكيمة عَنْ بَعْض الْعلمَاء والأعراب
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَن عَنْ عَمه، قَالَ: سَمِعت
1 / 22
أَعْرَابِيًا يَقُولُ: فَوْتُ الْحَاجة خيرٌ من طلبَهَا من غَيْر أَهلهَا، قَالَ الْأَصْمَعِي: وَسمعت آخر يَقُولُ: حمْلُ الْمِنَن أثقلُ من الصَّبْر عَلَى العَدَم.
قَالَ: وَسمعت آخر يَقُولُ: النزاهة أشرف من سرُور الْفَائِدَة، قَالَ: وَبَلغنِي أنَّ ابْن عَبَّاس يَقُولُ: كَمَا يتُوخى بالوديعة أَهْلَ الثِّقَة وَالْأَمَانَة فَكَذَلِك يَنْبَغِي أَن يتوخى بِالْمَعْرُوفِ أَهْلَ الْوَفَاء وَالشُّكْر.
قَالَ القَاضِي أَبُو الفَرَج: فِي هَذَا الْمَعْنى وَمَا يضاهيه وَمَا يُخَالِفهُ أَخْبَار وَكَلَام لَعَلَّنَا نأتي بِهِ فِيمَا يسْتَقْبل من كتَابنَا هَذِه إِن شَاءَ اللَّه.
وأنشدنا ابْن دُرَيْد، قَالَ أنشدنا أَبُو حَاتِم
رَأَيْتُ الدهرَ بالأحرارِ يَكْبُو ... وَيرفعُ رَايَةَ القَوْمِ اللِّئامِ
كأنَّ الدهرَ موتورٌ حقودٌ ... فيطلبُ وِتْرَه عِنْدَ الْكِرَامِ
قَالَ: وأنشدنا أَبُو حَاتِم أَيْضا:
أَظنُّ الدَّهْر أَقْسَمَ ثُمَّ برَّا ... بِأَن لَا يكْسِبَ الأمْوَالَ حرَّا
لَقَدْ قَعَد الزَّمانُ بكلِّ حرٍّ ... وَنَقّض من قواه مَا استمرا
الْمجْلس الثَّالِث
هَذَا فِي سَبِيل اللَّه
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدٍ إِمْلاءً فِي يَوْمِ الأَحَدِ لِسِتٍّ بَقِينَ مِنْ شعْبَان سنة سِتّ عشرَة وثلثمائة، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ الرَّبِيعِ الزِّيَادِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ، قَالَ: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خَطًّا، فَقَالَ: " هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا يَمِينًا وَشِمَالا ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ " ثُمَّ قَرَأَ " وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بكم عَن سَبيله ".
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ: وَهذا القَوْل من النَّبيّ ﷺ والتمثيل من أبين الْأَقْوَال البليغة وأفصحها، وأرصن الْأَمْثَال البليغة المضروبة الصَّحِيحَة وأوضحها، وَذَلِكَ أَنه خطّ خَطًّا جعله مثل الصِّرَاط فِي استقامته إِذْ لَا زيغ فِيه وَلَا ميل، ثُمَّ خطّ خُطُوطًا يمنة وشأمة آخذة فِي غَيْر سَمْته وجهته، تفرَّق بِمن سلكها واتبعها عَنِ السَّبِيل الَّتِي هِيَ سَبِيل الْهدى، والنجاة من مُرْديات الْهوى، وَبِهَذَا جَاءَ وحيُ الله وتنزيله فِي كِتَابه الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه، قَالَ: جَلَّ ذكره: " شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ " فدلّ هَذَا عَلَى مثل مَا دلّت عَلَيْهِ الْآيَة الَّتِي تَلَاهَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فِي الْخَبَر الَّذِي روينَاهُ فَقَالَ تَعَالَى: " إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْء " وَقَالَ: " فتقطعوا
1 / 23
أَمرهم بَينهم زمرًا كُلُّ حِزْبٍ، بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ " فِي كثير ممّا يضاهي هَذَا الْمَعْنى، والسبيل الطَّرِيق. وَقَول النَّبيّ ﷺ فِي هَذَا الْخَبَر حِين خطّ الْخط " هَذَا سَبِيل اللَّه " يحْتَمل أَن يكون إِشَارَة إِلَى الْخط فَذَكَرَ، إِذْ الخطُّ مُذَكّر، وَجَائِز أَن تكون الإِشارة فِيهِ إِلَى السَّبِيل فَذكره إِذْ الْعَرَب تذكِّر السَّبِيل وتؤنثه، وَقد جَاءَ التَّنْزِيل باللغتين، على أَن مِنْهُ من يذكر الطَّرِيق وَمِنْهُم من يؤنثه وَكَذَلِكَ الصِّرَاط، قَالَ ﷿ فِي التَّذْكِير: " وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يتخذوه سَبِيلا " وَذكر أَنَّهَا فِي قِرَاءَة أُبَيِّ بْن كَعْب لَا يتخذها ويتخذها بالتأنيث وَقَالَ فِي التَّأْنِيث: " وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ "، وَقَالَ: " قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى الله على بَصِيرَة " والتذكير والتأنيث كثيرٌ مَوْجُود فِي الْكتاب وَالسّنة كَقَوْل النَّبيّ ﷺ " لَوْلَا أَنَّهُ سَبيلٌ آتٍ وَحَتْمٌ مَقْضِيّ " وَفِي أشعار الْعَرَب وَسَائِر كَلَامهَا، والتأنيث أَكثر، وَأنْشد أَبُو عُبَيْدة:
فَلا تَجْزَعْ فكلُّ فَتَى أناسٍ ... سَيُصْبِحُ سَالِكًا تِلْكَ السّبِيلا
وأمّا قَول الله " ولتستبين سَبِيل الْمُجْرمين " فقد أَتَت القراءةُ فِيهِ بِالْوَجْهَيْنِ مَعًا، أَعنِي التَّذْكِير والتأنيث، فَكَانَ من قَرَأَ بالتأنيث الحسنُ وَمُجاهد وَعبد اللَّه بْن كثير وَعبد اللَّه بْن عَامر وَأَبُو عَمْرو بْن الْعَلَاء وَأَبُو الْمُنْذر سَلام بْن الْمُنْذر، وَيَعْقُوب الحَضْرمي وَقَرَأَ ذَلِكَ بالتذكير الأَعْمَشُ وَعَاصِم وَحَمْزَة وَالْكسَائِيّ، وَقَرَأَ ذَلِكَ أَبُو جَعْفَر الْمَدَنِيّ وَعبد الرَّحْمَن بْن هُرْمز الْأَعْرَج وَشَيْبَة وَنَافِع " وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرمين " أَي لتتبينها يَا أَيهَا النَّبِي وتستوضحها، وَالتَّاء فِي هَذِهِ الْقِرَاءَة للمخاطبة وَلَا دلَالَة فِيهَا عَلَى تذكير وَلَا تَأْنِيث، والسبيل مَنْصُوبَة بِالْفِعْلِ، وَقد اخْتلفت الْقِرَاءَة أَيْضا فِي كسر " وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا " وَفتحهَا وتخفيفها وتشديدها وَفتح الْيَاء من صِرَاطِي وإسكانها، فَقَرَأَ بِكُل وَجه من هَذِهِ الْوُجُوه أئمةٌ من قراء الْأَئِمَّة، فَمن قَرَأَ وَأَن هَذَا بِالْفَتْح وَالتَّشْدِيد فِي أنَّ وصراطي بِإِسْكَان الْيَاء أَبُو جَعْفَر وَابْن هُرْمُز الْأَعْرَج وَشَيْبَة وَنَافِع وَعَاصِم وَأَبُو عَمْرو، وَمِمَّنْ قَرَأَ بِكَسْر إِن وتشديدها وتسكين يَاء صِرَاطِي عَبْد اللَّه الأَعْمَشُ، وَطَلْحَة بْن مصرف وَالْكسَائِيّ عَلَى الِابْتِدَاء، وَمِمَّنْ قَرَأَ بِفَتْح الْهمزَة وتخفيفها وَفتح يَاء صِرَاطِي عَبْد اللَّه بْن أبي إِسْحَاق الحضرميّ وَعبد اللَّه بْن عَامر وَقَرَأَ أَبُو الْمُنْذر سَلام: وأنّ بِالْفَتْح وَالتَّشْدِيد وصراطيَ بِفَتْح الْيَاء، وَقَرَأَ وَأَن بِالْفَتْح والإسكان لياء الصراطي يَعْقُوب الحضْرميّ. قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج وبهذه الْقِرَاءَة أَقرَأ، وهين وَسَائِر مَا قدمنَا ذكره من الْقرَاءَات فِي هَذِهِ الْآيَة صَوَاب عندنَا صَحِيح مَعْنَاهُ لدينا، وَقد تقْرَأ بِهِ وتراه مُسْتَقِيمًا حَسَنًا فِي مَعْنَاهُ وَلَفظه، وَترى مختاري الْقِرَاءَة بِهِ مصيبين، ولسبيل الْحق متبعين، وَبِاللَّهِ ذِي الطول وَالْقُوَّة والحول نستعين.
عزل الحَجَّاج بْن يُوسُف عَنِ الْحَرَمَيْنِ
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أبي الْأَزْهَر، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْر بْن بكار، قَالَ: وحَدثني مُحَمَّد بْن يحيى،
1 / 24