قال انه ليس بعجب ان يكون كما ان لكل واحدة من الصناعات ادوات لها خاصية لا يعرفها جل الناس كذلك لكل واحدة منها ايضا اسماء والقاب لا يفهمها الا من عالج تلك الصناعات فقط. مثال ذلك انه متى قيل بسيط مسطح لم يفهم ذلك احد ممن يسمعه خلا المهندس، ومتى قيل وسطى لم يفهم ذلك احد سوى العالم بتأليف الالحان، ونجد هذه الاسماء عند الناس تشتبه بالالفاظ التى لا معنى لها كقول اليونانى: بليطورى وسقندابسس. وكذلك ايضا متى قيل ان انسانا ضربته حمرة او به شطر الغب او حمى اجامية او اكلة او علة يسميها اليونانيون قدماطا لم يعرف ذلك الا الاطباء فقط. وليس يجوز لأحد ان يلوم من يضع اسماء والقابا محددة بعد استخراج العلم بأمور محددة طلبا منه للايجاز وقرب المأخذ فى العلم اذ كنا معشر الناس ليس ننال من الاسماء والالقاب شيئا من المنافع خلا ان ينبئ بعضنا بعضا بالقول عن الامور والمعانى التى يريد الإخبار عنها، ولولا ان هذا لنا لكنا لا نفضل على الصم والخرس بشىء، من طريق ان استنباط الامور انفسها كما قد قال فلاطن ايضا قد يمكن ان يكون خلوا من الاسماء والالقاب متى نظرنا فى طبائعها فقط نظر تثبت. والدليل على ذلك ان اصحاب الصناعات الذين يضعون للاشياء التى يستخرجون معرفتها اسماء والقابا انما يصيرون لا محالة الى تسمية الاشياء وتلقيبها بعد ان يكونوا قبل التسمية والتلقيب قد وجدوا تلك الاشياء ووقفوا عليها، ويقصدون فى ذلك الى اشتراك من يقرب منهم ويحضرهم فيما وجدوه منها. فاما من كان منهم لا يحب ان يشركه احد فيما استخرج ووجد لكن يريد ان يخفيه ويستره بخلا منه وحسدا عليه فان التماسه لوضع الاسماء والالقاب وحرصه عليها باطل. واذا كان الامر كذلك فالناس انما عنوا واهتموا بوضع الاسماء والالقاب بعد استخراجهم للاشياء، ودعاهم الى ذلك ما احبوا من اشراك من يحضرهم ويقرب منهم فى العلم بتلك الاشياء. وهذا باب، وآن كان على ما هو عليه من عظم القدر فى الحث على محبة الناس ونفعهم حتى انه ليس يوجد شىء اخص منه بالانسان ولا اولى به منه اذ كان الانسان حيوانا ناطقا مطبوعا على اشراك غيره فيما يعلم، فان القوم الذين يسيئون فى استعماله قد يثربونه ويفسدونه على غيرهم. وذلك انه قد كان مطلقا لهم ان يضعوا لكل واحد من الاشياء التى تستخرج اسماء والقابا محددة فيغفلون ذلك ويغشون انفسهم اولا بالتماسهم نقل اسماء والقاب قد وضعت من دهر طويل ووضعها على كل ما ارادوا تسميته بطريق الاستعارة من المشابهة. فيعرض من ذلك ان يكونوا مرارا كثيرة يريدون الدلالة على شىء ما فيفهم عنهم السامع شيئا آخر سواه، وهذا امر ليس هو شيئا اكبر من انهم يثربون ويفسدون على الناس منفعة الكلام، ثم لا يرضون بان يفعلوا هذا فقط دون ان يحملوا انفسهم بالاقدام على امر جليل الخطر فيعذلوا من يجرى كلامه على سبيل الصواب مع انهم ايضا لا يقدرون ان يميزوا بين ما يجرى من المراء والمحال فى امر الاسم وما يجرى منه فى امر الشىء المسمى بذلك الاسم. بل متى لم يستعمل الانسان الاسماء والالقاب التى يستعملونها هم بأعيانها ظنوا انه انما قال غير ما ارادوا وذهب الى معنى آخر.
وانا ممثل لك ذلك اولا بمثال لو انى بحثت عنه مفردا لقد كان فى البحث عنه منفعة: فتوهم الآن انسانا تنوب عليه الحمى غبا واقول انها حمى خلوة من كل عرض وانما اخذته ستا وعشرين ساعة وتركته اثنتين وعشرين ساعة فدخل اليه من الاطباء رجلان فجعل احدهما يبحث عن السبب الذى به تحدث هذه الحمى وكيف الوجه فى مداواتها على اجود ما يكون وجعل الآخر يطالب باسم هذه الحمى اعنى ما الذى ينبغى ان يسمى هذا النوع من الحمى واذا عرض ذلك وقع للطبيب الذى يبحث عن الوجه فى مداواة الحمى ويدع البحث عن الاسم الذى ينبغى ان تسمى به فلا يلتفت اليه شغل فهو لا يزال يستدعيه ويضطره الى الجواب ويأمره ان يخبره باسم هذه الحمى ما هو مع انه فى اكثر الامر علم الله لا يخرج مسئلته مخرج من يجرى كلامه على الصواب كما فعلنا نحن فى قولنا اسم هذه الحمى ما هو بل يجعل مكان المسئلة عن اسم هذه لحمى ما هو المسئلة عن هذه الحمى ما هى. فان هذا عصر قد نجد فيه اطباء كثيرة مذهبهم هذا المذهب اعنى انهم لا يسئلون عن السبب المحدث للحمى ما هو ولا عن مداواتها كيف ينبغى ان تكون ويعتنون بالمسئلة عن اسم الحمى هل هو غب او شطر الغب كأن الوجه الذى به يتخلص الانسان من مكروه الحمى انما هو من قبل العلم باسمها لا من قبل العلم بنفس المرض واستنباط ما يوافقه من الاشياء التى يداوى بها حتى يصلح. واما انا فمن عادتى ان اجعل جوابى مرارا كثيرة لمن سأل عن هذا ان هذه الحمى تسمى زينن وربما قلت انها تسمى ابولونيوس او غير ذلك من كل اسم يتفق ان يجرى على لسانى. ثم ارجع بعد ذلك على الطبيب فأسئله ان كان يعلم مما يداوى به تلك الحمى شيئا ينتفع به فليعرفناه ويتحر فى ذلك ان يخاص المريض مما وقع فيه، فأجده عند مسئلتى اياه عن ذلك اشد صمتا من السمك لانه انسان انما اخذ نفسه بالمبالغة فى معرفة الاسماء فصار ماهرا فيها حاذقا بها ولم يلتفت الى نفس الاشياء بل توانى عنها.
وعلم الله انى قد لقيت من الاطباء خلقا كثيرا جدا قد قصدوا من كتاب اغاثينس فى شطر الغب وهو ثلاث مقالات الى المقالة الاولى وحدها فقرءوها وحفظوها حتى صاروا يحفظونها غاية الحفظ كما يحفظون اسماءهم فاما المقالتان الاخريان اللتان يتلوانها فانهم لا يحفظونهما ولا قرءوهما ايضا فضلا عن ان يكونوا يحفظونهما لكنهم لما وجدوا اغاثينس قد بحث فى المقالة الاولى من هذه الثلاث عن اسم الحمى المعروفة بشطر الغب اعنى اى الحميات ينبغى ان يسمى بهذا الاسم اهتموا بهذه المقالة هما شديدا فصار كثير منهم يحفظها وتوانوا عن النظر فى المقالتين الاخريين اللتين يبحث فيهما هذا الرجل عن الاسباب الفاعلة لهذه الحمى ويصف كيف ينبغى ان تداوى.
Halaman 2