من حالات الوعي فإن الحاضر الرواغ في خبرتنا لا يبقى ساكنا، لكنه يتحرك باستمرار حركة أمامية نحو المستقبل: «إننا نتعرف على العناصر الماضية في الحاضر الرواغ بوصفها ماضيا، لانزلاقها المستمر نحو الماضي الذي لا ندركه، لكنا نتذكره فحسب. أما عناصر هذا الحاضر المقبلة بوصفه مستقبلا، فنحن نتعرف عليها حين تلقي ظلالها على المستقبل، أعني على ذلك الذي يمكن أن نتوقعه أو نتخيله، لكنا لا نستطيع أن ندركه.»
64
وإنه لمن الأهمية بمكان أن نلاحظ الاستخدام المألوف لكلمة «حاضر» حين نطبقها على فترات طويلة من الزمان، فنحن نستطيع أن نتحدث حديثا مفهوما تماما عن الحرب الحاضرة، وعن حركة الإصلاح الاجتماعي الحاضر، بل إننا نستطيع أن نقول ذلك على فترات تستغرق سنوات طويلة. ومثل هذا الاستخدام لكلمة «الحاضر» استخدام مشروع، طالما أنه يشير إلى عملية واحدة من عمليات النشاط. وهذا هو المبدأ نفسه الذي نطبقه على لحظة الانتباه، حين ينظر إليها على أنها لحظة حاضرة رغم مدتها الزمنية.
وواضح أنه من الطبيعي جدا أن نوسع لحظة الانتباه، أو أن نضيقها عن طريق الخيال، ففي استطاعتنا أن نتصور فترة طويلة من الزمان على أنها حاضر رواغ واحد، بالقياس إلى انتباه آخر قد يكون أكثر شمولا من انتباهنا. وفي استطاعتنا من ناحية أخرى أن نتخيل أن مجال الانتباه أخذ يتضاءل حتى أصبح يتضمن نقطة لا متناهية في الصغر. ونستطيع في الحالة الأولى أن نواصل الصعود في السلم حتى نصل إلى اللاتناهي ونبلغ فكرة الأبدية التي يمكن إدراكها بلمحة واحدة وبقوة قد لا تقل عن قوة الله. بينما نستطيع في الحالة الثانية أن نواصل الهبوط حتى نصل إلى ما يسمى بالنقطة الرياضية، وهي النقطة التي لا بعد لها. لكن ينبغي علينا ألا ننسى أن الفكرة التي نصل إليها في أي من الحالتين ليست إلا خيالا يقوم على أساس واقعة معينة، هي المدة التي تستغرقها لحظة الانتباه. (35) والتفرقة بين عناصر معينة يتكون منها المجال الذي يشكل موضوع الانتباه في لحظة معينة، تصل بنا إلى نقطة هامة، هي: التفرقة بين الانتباه المتصل وأفعال الانتباه، فهناك عملية انتباه مستمر إلى «الحاضر المتصل» بوصفه كلا يشكل أرضية معينة. ونستطيع أن نميز داخل هذه الأرضية بين أجزاء معينة، وكل لحظة من لحظات هذه التفرقة تشكل فعلا من أفعال الانتباه، لكن الموضوع الحاضر أمام الانتباه لا يمكن أن ينحل - بواسطة هذه الأفعال - إلى كثرة منفصلة. كلا، ولا يمكن أن ينحل الانتباه المتصل إلى أفعال منفصلة، فالكل الموضوعي لا يزال كلا متصلا يتحرك إلى الأمام، ولا يزال فعل الانتباه متصلا، وهو يظل كذلك رغم توزيعه المختلف وسط أجزاء المجال التي يمكن أن تتميز. (36) سبق أن قلنا إن الجانبين اللازمين للنفس هما الانتباه وموضوعه. كما قلنا إنه لا يمكن أن يكون هناك انتباه بغير موضوع ينصب عليه هذا الانتباه، كما أنه لا يمكن أن يكون هناك موضوع ينصب عليه الانتباه بغير ذات تنتبه. وقد يظهر هنا سؤالان: الأول هو: من الذي ينتبه؟ والثاني: هل يمكن أن نضع خطا فاصلا بين الانتباه وموضوعه؟
أما الإجابة عن السؤال الأول فهي: أن الذي ينتبه هو الفاعل السيكوفيزيقي
65 ... ككل متكامل، فهناك أولا حواسه التي تعتبر أمثلة نوعية للانتباه، فهو حين يرى: ينتبه أو يقوم بوظيفة نوعية هي الرؤية. وهو حين يسمع ينتبه أو يقوم بوظيفة نوعية هي السمع ... وهكذا، لكن الحواس ليست هي كل شيء، فهناك أيضا الانتباه إلى الأفكار. والواقع أن الانتباه كله إنما يكون لمضمون فكري، طالما أننا لا ننتبه إلى الإدراكات إلا كمضمون فكري فحسب، ومن هنا فإننا قد نقبل نظرية هيوم في «الانطباعات والأفكار» بشرط أن نضيف إليها حقيقة هامة، هي أن هذه الانطباعات، وهذه الأفكار، تكون موضوعا للانتباه.
الفرد في تكامله هو الذي ينتبه، ومن هنا كان الانتباه هو الخاصية الجوهرية للكائن الحي. والنفس هي الكائن الحي بقدر ما ينتبه. وليس هناك فرق في ذلك بين الصور الدنيا من الكائنات الحية والصور العليا منها، بين النبات والموجودات البشرية، اللهم إلا في درجة تعقد موضوع الانتباه. ولقد وجد أرسطو في دراسته لطبيعة النفس أن الأنواع المختلفة من الأنفس ليست متشابهة أتم التشابه، بحيث يمكن أن يكون لها كلها تعريف واحد من مظهرها المتواضع في النبات، إلى القمة التي تصل إليها في الإنسان. كما أن هذه الأنواع من الأنفس ليست مختلفة اختلافا تاما، بحيث لا نستطيع أن نجد لها طبيعة مشتركة بين كل تنوعاتها. وأشكال النفس تمثل سلسلة لا تناسب فيها، بحيث نجد أن كل شكل منها يفترض الأشكال السابقة دون أن تتضمنه هذه الأشكال. والنفس الدنيا هي النفس الغاذية، وهي لهذا توجد في جميع الكائنات الحية، ثم تأتي بعد ذلك النفس الحاسة، التي توجد في الحيوانات وحدها ولا توجد في النبات، ثم نجد أخيرا قوة خاصة بالإنسان هي النفس العاقلة.
ولو تأملنا قليلا هذا التصنيف الأرسطي للنفس - من وجهة النظر التي نأخذ بها - لوجدنا أن العامل المشترك والأساس في جميع هذه الأشكال هو الانتباه، مع اختلاف موضوعه، واختلاف درجة تعقيده. فالوظيفة الغاذية الموجودة في النبات والحيوان على السواء، والتي لا بد أن تعمل على حفظ وجود الكائن الحي، تفترض سلفا انتقاء العناصر المناسبة للتغذية، والانتقاء مستحيل بدون الانتباه، لأننا لا نعني بالانتقاء مجرد تقبل الكائن الحي لمجموعة من العناصر وسط عناصر أخرى، كما هي الحال مثلا في «الغربال»، الذي يستبقي الجوامد من حجم معين ويترك الباقي، أو قطعة الكربون التي تقوم بدور المرشح، لكننا نقصد ذلك الانتقاء النشط الفعال، الذي يأخذ العناصر التي يحتاج إليها ويستبعد العناصر الأخرى. والانتقاء المتضمن في الكائنات نشاط النفس الغاذية واضح. أما النفس الحاسة فليس لها وظيفة الإدراك فحسب، لكن لها أيضا وظيفة الشعور باللذة والألم، وهي تنشأ كنتيجة للوظيفة السابقة، لكي تستطيع التمييز بين الأشياء المختلفة، فتأخذ منها ما هو سار ، وتترك ما هو مؤلم، أعني أن تقوم بالانتقاء والاختيار إيجابا وسلبا. والوظيفة الخاصة بالنفس العاقلة عند الإنسان هي تشكيل التصورات المجردة: الحكم والاستدلال. حلل كل عملية من هاتين العمليتين، وسوف تجد أنها تعتمد على الانتباه إلى جوانب معينة في أفكار معينة دون غيرها، ففي حالة تكوين فكرة مجردة ينتبه المرء إلى خاصية أو أكثر من خصائص الواقعة الفردية العينية، كاستدارة القرش مثلا، أو الجانب العقلي في الإنسان. وحين يصدر المرء حكما فهو بهذا الحكم يحيل مضمونا فكريا إلى واقع متجاوز لهذا الفعل، سواء إذا كان الحكم سلبا أو إيجابا. وتلك صورة من صور التجريد: تجريد لخصائص فكرية، وتجريد لجانب من الواقع، وبينهما تتم المقارنة وتحدد العلاقة بأنها موجبة أو سالبة. والاستدلال يعني اكتشاف علاقات جديدة بين الأشياء، وهذا الاكتشاف من ناحية أخرى يتضمن الانتباه إلى جوانب معينة في هذه الأشياء ويستبعد جوانب.
ومن ثم فإن النفس في جميع صورها تعتمد على وظيفة الجسم الحي، وأكثر وظائف الجسم الحي، ماهوية هو أن ينتبه، ومن هنا ترانا ننكر وجود الحياة في الجسم الذي لا يكون إلا موضوعا للانتباه دون أن ينتبه هو نفسه لاختيار شيء ورفض شيء آخر. لكن قد يقال إنه من المستحيل أن يكون الذهن صفة تلحق بالجسم لأن: «... الجسم، وكل جزء منه، يمكن للذهن أن يدركه تماما، كما يدرك أي موضوع محايد.»
66
Halaman tidak diketahui