ولهذا فنحن لا نستطيع أن نوافق هيوم فيما ذهب إليه؛ من أن الذات لا وجود لها؛ لأن الاستبطان لم يظهر له هذه الذات أو النفس عارية؛ ذلك لأن الذات، تدرك من خلال الحالات التي تخضع للاستبطان، لا من حيث هي حالة بين هذه الحالات. إنك لا تستطيع أن تعزل الانتباه لكي تدركه بالاستبطان؛ إذ لو فعلت ذلك لكنت تعزل الانتباه عن طريق الانتباه - وهو دور. (14) والمدرسة السلوكية لون آخر من ألوان النظريات اللامركزية عن النفس؛ فقد حصرت هذه المدرسة نفسها في دراسة أنماط السلوك التي يمكن أن يشاهدها الملاحظ الخارجي، ورفضت الاستبطان منهجا للبحث، معتمدة في ذلك على التجارب المحكمة التي أجراها «بافلوف
» على الفعل المنعكس الشرطي، دون أية إشارة إلى ما يسمى بالشعور. وزعم السلوكيون أن العلوم الطبيعية قادرة على تفسير جميع وقائع السلوك التي نلاحظها، وأنه ليس ثمة ما يبرر أن نفترض وقائع السلوك التي نلاحظها، وأنه ليس ثمة ما يبرر أن نفترض وقائع للسلوك البشري لا يمكن أن نعرفها إلا بطريقة أخرى غير المشاهدة الخارجية، وما دام الذهن، من حيث هو ذهن، لا يمكن ملاحظته فقد استبعدوه.
وكل سلوك، بالغا ما بلغ تعقده - كالعمليات التي نطلق عليها اسم التفكير مثلا - يمكن عند هذه المدرسة أن يرتد في نهاية تحليله إلى وحدات من «مثير - استجابة» أو في صيغتها الرمزية «م - س». وهم يستخدمون هذه الصيغة الرمزية لإظهار اعتماد الحركة على المثير. و«م» ترمز إلى «المثير»، و«س» ترمز إلى الاستجابة. وواضح تماما أن هذه الصيغة ناقصة أشد النقصان، فهي تفترض أن «م» مثير معين، يعقبه باستمرار «س» أي استجابة معينة، بغض النظر عن الكائن الحي الذي يثيره هذا المثير. مع أننا نجد الناس في حياتهم اليومية يستجيبون استجابات مختلفة لنفس المثير، ويستجيب الفرد الواحد استجابات مختلفة للمثير الواحد في أوقات مختلفة. خذ مثلا جماعة المسافرين في عربة، يسيرون وسط واد صغير: «هذا الوادي بمعنى ما من المعاني واحد بالنسبة لهم جميعا، فهو جزء من بيئتهم المشتركة. لكنك ستجدهم يختلفون في استجاباتهم له، فهذا واحد منهم، وهو فنان، يبدأ في عزل الموضوعات الموجودة أمامه بعضها عن بعض ليرسمها، في الوقت الذي يرقب فيه شخص آخر - سماك - بسرور كبير برك الصيد التي يكثر فيها السمك، بينما يهتم شخص ثالث - عالم جيولوجيا - بمراقبة منظر الشاطئ الرملي والأماكن المتحجرة، أو يقف متأملا بعض الكتل الصخرية.»
26 (15) ويجمل بنا هنا أن نفرق بين نوعين من الأسباب؛ فهناك أسباب داخلية وأسباب خارجية. فإذا كان سبب التغيرات التي تحدث في موضوع معين يكمن داخل هذا الموضوع نفسه، قلنا إن السبب في هذه الحالة داخلي. أما إذا كانت التغيرات ترجع إلى ظروف خارجية، قلنا إن السبب في هذه الحالة خارجي. فإذا ما وضعت شرارة فوق «بارود» فأحدثت انفجارا، قلنا إن الشرارة ، في هذه الحالة ، هي السبب الخارجي للتغير الذي حدث، وهو الانفجار. لكن الشرارة لا يمكن أن تكون هي السبب «كله»؛ لأننا لا نحصل على هذه النتيجة «أي الانفجار» إذا ما وضعنا الشرارة على الفحم مثلا. ومعنى ذلك أن تركيب البارود نفسه هو الجانب الآخر من السبب، وهو ما نسميه بالسبب الداخلي. وقل مثل ذلك حين يسلك الكائن الحي بطريقة معينة، فقد ننظر إلى بعض العوامل الخارجية على أنها السبب الخارجي لهذا السلوك، لكن تكوين الكائن الحي نفسه لا بد أن يوضع موضع الاعتبار بوصفه السبب الداخلي لهذا السلوك؛ لأنه قد لا يسلك كائن حي آخر نفس هذا المسلك مع وجود هذه العوامل الخارجية نفسها. يقول جيمس وورد
27
في هذا المعنى: «إن ضوء الغروب الذي يرسل الدجاجة لتبيت في حظيرتها، يجعل الثعلب يشرع في التجوال في الغابة بحثا عن فريسته، وزئير الأسد الذي يجمع بنات آوى، يشتت الأغنام ويفرقها.»
28
بل إنك لتجد أن الكائن الحي الواحد نفسه يستجيب استجابات مختلفة للمثير الواحد في بعض الظروف المقبلة؛ لأن أساس السلوك، وأعني به التكوين الداخلي للكائن الحي، قد تغير ولم يعد كما كان من قبل. (16) ومن هنا فإن صيغة «م - س» تصبح غير كافية لتفسير وقائع السلوك؛ لأن التكوين العضوي للفاعل لا بد أن يدخل جزءا من السبب. ومن ثم فحرف «ك»، الذي يمثل الكائن الحي، لا بد أن يدخل في الصيغة التي تتحول بناء على ذلك إلى «م - ك - س» أي «مثير - كائن حي - استجابة»، وهي تعني أن الاستجابة يحددها المثير والكائن الحي.
غير أن ترتيب العناصر في هذه الصيغة لا يزال غير مقنع. ذلك لأن الفرد لا يبقى ساكنا في انتظار سلبي حتى يأتي المثير ليثيره. لكنه على العكس، ينتقي من البيئة المحيطة المثير الذي يلائم طبيعته. وهو يجعل من المثيرات التي تحافظ على وجوده موضوعا للاشتهاء والرغبة. ومن المثيرات التي تؤدي هذا الوجود موضوعا للكراهية والنفور، أما الموضوعات التي تبقى بعد ذلك، أي الموضوعات المحايدة، التي لا تضر ولا تنفع ، فهو يقف منها موقف اللامبالاة. والفرد بهذا الانتقاء والاختيار يحدد البيئة الخاصة التي تناسبه. وعلى ذلك فبدلا من ترتيب الصيغة السابقة «مثير - كائن حي - استجابة»، هناك الآن تعديل مقترح، بحيث تصبح هذه الصيغة على النحو التالي: «كائن حي - مثير - استجابة».
29
Halaman tidak diketahui