ويفسر «برجسون
Bergson » الحياة بأنها عملية خلاقة، سواء أكانت حياة الفرد أم تطور الأشكال البيولوجية. والنشاط الخلاق للكائن الحي يتضمن الفرضية؛ فحينما وجدت الحياة وجدت معها الفرضية، والفرضية لا بد أن تتضمن الحرية. وحين رفض برجسون المذهب الغائي
Finalism ، كما رفض المذهب الآلي
Mechanism ، سواء بسواء، على اعتبار أن المذهبين صورتان للحتمية، فإنه لم ينكر بذلك الفرضية في الحياة، فالفرض لا يتناقض مع الحرية، بشرط ألا يفرض من الخارج: «انظر إلى الفعل الحي الذي تقوم به شجرة تغير أوراقها ... تجد أنها تكيف نفسها مع ظروف بيئتها، لا بالاستجابة للمؤثرات المباشرة التي تؤثر فيها، لكن بالاستعداد مقدما لتغير الفصول، فهي لا تنتظر إلى أن يجيء الشتاء ويؤثر فيها، فتستجيب عندئذ لانخفاض درجة الحرارة فتخترع حماية لبراعمها الرقيقة ضد الصقيع، كلا، لكنها تبدل أوراقها، وتشكل براعمها مقدما وعلى سبيل التوقع
in anticipation . فالمستقبل - في رأينا - أو الشتاء الذي لم يوجد بعد؛ يؤثر فيها في الوقت الحاضر.»
36
أو بالأحرى: الفرض الحالي يحدد الفعل الذي يبدو مناسبا. (23) هناك تشابه ملحوظ بين الحياة والخلق الفني في المحافظة - خلال مجرى التطور - على نمط معين من الوظيفة؛ فالكائن الحي في محافظته على بقاء حياته لا بد أن يعمل بطريقة تدعم حياته، وقل مثل ذلك في حالة الفنان؛ فهو لا بد أن يحتفظ بموضوعه في ذهنه ويواجه المواقف المختلفة التي تظهر في تطور هذا الموضوع بطريقة تخدم غرضه. ومن هنا فإن نمو الحياة «ليس لونا من ألوان الصناعة التي لا يوظف إنتاجها إلا بعد نهاية فترة الصنع. إن الجنين الحي، أو الطفل الحي، حين يخرج من البذرة الحية في مجرى التطور، فإن الكائن يبقى واحدا لا قطعة آلية في دور التكوين، بل بالأحرى إنتاج جمالي يحتفظ بخصائص معينة، يشبه البناء المادي والنحوي للقصيدة خلال فترة تكوينها. والتواجد العيني، أو التعبير في حالة التأليف الجمالي، لا بد أن يحتفظ باستمرار بشكل معين. وهذا الشكل يتدعم خلال ظروف لا نعرفها مقدما، وخلال مشكلات التعبير، التي توجد أمام الفنان في كل خطوة من خطوات التأليف ... وهكذا، فإن التطور الحيوي لا يمكن مقارنته - فيما يبدو - بالإنتاج طبقا لخطة موضوعة، وإنما يمكن مقارنته بالإنتاج الجمالي، الذي لا يبدأ من شيء آخر سوى موضوع مختار ووسيلة للتعبير تنتج إجابات لمشكلاتها كلما ظهرت.»
37
الحرية التي ندافع عنها هي حرية الخلق، حرية الانبثاق من الماضي المتراكم إلى الجدة التي لا يمكن التنبؤ بها، ونحن - خلافا لما يقول اسبينوزا - لا نعتقد أن الحرية التي يشعر بها الإنسان هي وهمه الخاص. إن الوهم يكمن في الحالات التي نظن فيها خطأ أن أفعالنا محددة تحديدا داخليا معتمدين على النظر إلى أفعالنا الماضية ورؤيتها كحلقات في سلسلة ترتبط فيما بينها ارتباطا سببيا. إننا - شأننا شأن جميع الكائنات الحية - ننتبه باستمرار، وبين الحين والآخر نختار فعلا معينا نعبر به عن أنفسنا، وكما يقول «برجسون» في عبارة مشهورة إننا ننتفخ بماضينا مثل كرة الثلج التي تتضخم حين تتدجرح ويلتف الجليد حولها، ففي كل لحظة من لحظات حياتنا ننتقي شيئا معينا من الموضوعات الممكنة التي نجدها أمامنا، ونحن بانتقائنا لهذا الموضوع نحقق أنفسنا.
وحين ننظر إلى الوراء، إلى أفعالنا التي حققناها، يبدو كل منها على أنه مقيد بالفعل الذي سبقه. لهذا ترانا ننظر إلى سلسلة المقدمات والنتائج كما لو كانت شيئا غريبا عنا، وهكذا نظن أن كل مقدم قد فرض علينا فرضا ضروريا من الخارج، لكن الواقع أننا نحن أنفسنا هذا الماضي، ونحن نحقق كل فعل من أفعالنا بدرجة من الحرية، كل في لحظته بوصفه حاضرنا في لحظة هذا الفعل. أما حين ننظر إلى أفعالنا الماضية على أنها «أحداث مضت» فإننا في هذه الحالة ننظر إليها من الخارج لا من الداخل، أعني كمتفرجين لا كفاعلين. وذلك يشبه بالضبط النظر إلى قصيدة من القصائد بمعزل عن النشاط الخالق الذي تتضمنه هذه القصيدة، أعني النظر إليها كبناء لغوي مكون من مجموعة من الكلمات. (24) إن كل لحظة في تاريخ شخصية الإنسان هي شيء جديد يضاف إلى ما هو موجود بالفعل، كل لحظة في حياة الإنسان - لا سيما أفعاله الإرادية - تشبه إنتاج الفنان، الذي لا يستطيع أي فرد حتى ولا الفنان نفسه - فيما يتعلق بتفصيلات الإنتاج - أن يتنبأ بشكلها الدقيق «لأن التنبؤ بها يعني إنتاجها قبل أن تنتج، وهو فرض محال؛ لأنه يهدم نفسه بنفسه.»
Halaman tidak diketahui