ولندع السياسة جانبا فالحديث عنها دائما لا يروق لمعظم الناس، ولنتحدث عن بولندا الإنسان. وأول ما يسترعي الانتباه في بولندا الإنسان هو المثقفون البولنديون. والثقافة في بولندا مسألة شائعة إلى الدرجة التي كانت تدفعنا للضحك في أحيان؛ فقد كان المرافق مثلا يقول لنا، غدا صباحا لديكم موعد مع البروفيسور فلان، ونتصور أننا في طريقنا إلى الجامعة، ولكنا نفاجأ في الصباح أننا في طريقنا إلى مجلس المدينة، ويتضح لنا أن رئيس مجلس المدينة هو هذا البرفيسير، ونجد أنه في نفس الوقت أستاذ الرياضة أو الميكانيكا في الجامعة، وأنه ليس معينا وإنما منتخب ومحبوب من جماهير شعب المدينة، حتى لقد أطلقت على بولندا وأنا هناك: البلد الذي يحكمه البروفيسيرات.
المثقفون في وارسو
والمثقفون البولنديون ليسوا كالمثقفين في معظم بلاد العالم، إنهم في الوقت الذي يحكمون فيه تجدهم ينقدون حكمهم هذا أشد النقد، وتجد الحكومة هناك تتقبل النقد بطريقة لم أكن أتصورها. في وارسو رأيت مسرحية لأكبر كاتب مسرحي بولندي معاصر «موروجيك» والمسرحية اسمها «تانجو»، ترجمها في أثناء العرض صديق بولندي، ولكني لم أكن في حاجة إلى الترجمة لأدرك هذه الكمية الهائلة من النقد الموجه إلى كافة أوضاع الحياة. ليس في بولندا وحدها وإنما في أوروبا كلها. والمسرح البولندي بالمناسبة جزء حي جدا وهام جدا من المسرح الأوروبي؛ فلقد نشأ المسرح هناك في نفس الفترة التي نشأ فيها المسرح في معظم بلدان أوروبا الوسطى، نشأة دينية تقليدية في القرن الخامس عشر والسادس عشر على هيئة محاورات باللاتينية بين الشخصيات الدينية المسيحية. ومع بداية عصر النهضة وبداية خروج اللغة البولندية إلى الوجود بدأت المحاورات تكتب بالبولندية، ويمثلها طلبة جامعة كراكوف القديمة «من أقدم جامعات أوروبا» حيث يقدمون مترجمات لكتاب القرن السادس عشر مثل لوكاش جورنيكي وبيوتر سيكلنسكي.
ولقد شهدت في وارسو أيضا مسرحية قديمة جدا اسمها «حياة يوسف» وهي عن القصة المعروفة لسيدنا يوسف، ولقد كانت مكتوبة كملحمة شعرية بالغة الطول، ومنذ كتابتها لم تمثل على مسرح إلى أن أعدها إعدادا خاصا الفنان المعاصر كازيمييرز ديجميك وقدمت لأول مرة على المسرح عام 1958. وأشهد أني كنت كمن يشاهد عملا فنيا معاصرا عن الإغراء والغواية. ولن أتحدث عن الإخراج؛ فالبولنديون في الإخراج قد تفوقوا إلى الدرجة التي كنت فيها ذات مرة في موسكو وشاهدت ازدحاما شديدا حول أحد المسارح، وحين سألت عرفت أنها إحدى مسرحيات برخت، ولما أدهشني الازدحام الشديد ونفاد التذاكر قالوا لي إن السر أنها لمخرج بولندي. والحقيقة أن بولندا في مجال المسرح لا تعد من الطليعة فقط بالنسبة للبلاد الاشتراكية، ولكن بالنسبة لبلاد أوروبية غربية أيضا مثل إيطاليا وفرنسا. إن المسرح هناك حقيقة أزلية واقعة. قال لي رئيس تحرير مجلة «ديالوج» وهي المجلة المسرحية الأولى في بولندا «وهناك أربع مجلات أخريات»: إننا لسنا قوما برجوازيين لدينا العربات الفارهة والفيلات المقامة في الريف نقضي فيها «الويك إند»، نحن قوم كلنا نعمل كما ترى ونكدح؛ ولهذا فحياتنا الروحية كلها مرتبطة بالمسرح. إنه «كنيستنا» الحديثة بلا وعظ أو إرشاد. والغريب أني حين سألته إن كان لديهم مسرح تجاري نفى هذا وقال: وعن المسرح التجاري وجماهيرنا قد تعودت على المسرح الحقيقي بحيث لا يمكن لأذواقها أن تقبل السخف أو التهريج؟ ليس لدينا سوى مسرح واحد يؤمه جميع الناس، مسرح قائم على «الريبوتوار» الأوروبي والإنتاج المسرحي المحلي، ورئيس تحرير «ديالوج» من ألمع الشخصيات الأدبية البولندية ولحسن الحظ يتكلم الإنجليزية والفرنسية بطلاقة، وقد ذكر لي أنه أول من اكتشف بيكيت للبولنديين والعالم أجمع، وأنه نشر له مخطوطاته الأولى التي كان يرفضها الناشرون والمخرجون في فرنسا ولا يزال صديقه إلى الآن. والغريب أنني في نفس اليوم الذي قابلته فيه كنت آتيا من لقاء مخرج مسرحي شاب ثائر بعد أن حضرت معه إحدى «بروفات» مسرحية جيرودو «أنديين». ومع أنها كانت مجرد بروفة إلا أني فوجئت بها تحدث بالملابس والأضواء والمؤثرات الصوتية، ولم تكن البروفة جنرالا ولا الأخيرة. كانت البروفة الخامسة عشرة للرواية، ولكن المخرج أكد لي ضرورة إيجاد الممثل ومنذ التدريبات الأولى في الجو النفسي الكامل للرواية.
وبعد انتهاء «البروفة» جلس المخرج يحدثني عن طريقته في الإخراج، ويؤكد ضرورة أن يفسر المخرج النص تفسيرا شخصيا، أما رئيس تحرير «ديالوج» فقد عارض هذا على خط مستقيم، واعتبر النص المسرحي أولا عملا أدبيا لا يجب المساس به أو الإخلال.
المشكلة النظرية في بولندا
المثقفون في البلاد الاشتراكية، يكونون دائما النقطة المضيئة، وفي نفس الوقت يكونون إحدى مشاكل هذا المجتمع؛ وذلك أن المجتمع الاشتراكي لم يستطع إلى الآن أن يحل وضع المثقفين حلا جذريا، وفي أي بلد اشتراكي زرته كان هناك دائما تململ من نوع ما، تململ المسئولين من المثقفين، وتململ المثقفين من المسئولين. في بولندا الوضع مختلف بعض الشيء؛ فالمثقفون فئة ضخمة جدا من فئات المجتمع «ويكفي للدلالة على هذا أن نعرف أن كل أفراد الشعب البولندي أصبحوا ومنذ بضع سنوات يجيدون القراءة والكتابة» ولهذا فللمثقفين أيضا نفوذ ضخم بين جماهير الشعب، وربما لهذا لم أشهد مثقفا يشكو من وضعه أبدا. كل مثقف موضوع في مكانه بالضبط، ولا فضل لأحد على أحد حتى لو كان المثقف من أعضاء الحزب وزميله ليس عضوا. لم أشهد كاتبا أو فنانا موهوبا يشكو من أزمة نشر أو تقدير حتى الناشئين ففي مجلة
وهي وجه بولندا الأدبي والثقافي إلى العالم الخارجي، تجد أشعارا لشبان لا يتجاوزون العشرين مترجمة إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية والروسية، وموروجيك الكاتب المسرحي الكبير بلغ مكانته هذه في بضع سنوات قليلة، سبع أو ثماني سنوات، ولم ينكر أحد عليه مكانته تلك، رغم أنه لم يبلغ الأربعين، ولم يطالبه أحد بأن يقف في آخر الطابور احتراما للسن وللعمر الأدبي، بل هم يحملونه كالراية الخفاقة فوق رءوسهم ويعدونه كأحد مفاخر بلادهم.
مشاكل المثقفين في بولندا إذن ليست مشاكل شخصية تتعلق بذواتهم أو أعمالهم، ولكن مشكلتهم كما استخلصتها من عشرات المناقشات والأحاديث هي الاشتراكية، أو بالأصح مشاكل الاشتراكية. وأولها مشكلة الديمقراطية، أو بمعنى أدق مشكلة الديمقراطية الاشتراكية. في منزل الصديق الكاتب ميجانوفسكي قابلت أحد الخلاصات الفكرية للمجتمع البولندي ممثلا في كاتب كبير ورئيس تحرير إحدى المجلات الكبرى، والحقيقة أنه كان مثالا للذكاء والفهم الاشتراكي العميق. وملخص ما قاله لي خلال سهرة بأكملها أن مشكلة الاشتراكية في العالم أجمع الآن هي أن تجد لنفسها، بعد أن أرست دعائم التطبيق الاقتصادي، النظام الديمقراطي الخاص بها، ليس البرلمانية الغربية الرأسمالية فهذه نظم خاصة لا يمكن أن تتكرر في البلاد الاشتراكية، ولكنها نظم ديمقراطية نابعة من صميم النظام الاشتراكي ومعدة بحيث تضمن التطبيق الديمقراطي الحقيقي؛ أي اشتراك جماهير الشعب اشتراكا فعليا في الحكم لا يحده حد من خوف أو سلبية. لقد أدت الاشتراكية دورا معجزا في النهوض باقتصاديات البلاد التي طبقت فيها، وبقي أن تؤدي مهمتها الحقيقية ألا وهي إشراك الناس في حكم أنفسهم بأنفسهم وما يعقب هذا ويسبقه من لامركزية الأجهزة الاقتصادية.
والمؤسسات العامة. إن هذه المشكلة في رأيه تضع الاشتراكية أمام اختبار من المحتم لها إن عاجلا أو آجلا أن تجتازه وإلا فقدت روحها نفسها واستحالت إلى نظام لا تقبله الجماهير.
Halaman tidak diketahui