الغائب الذي طالت غيبته ولكنه أخيرا عاد، كنت أتوقع أي شيء إلا أن أجده كما هو وكما كان دائما بنفس الملامح والشعر والمنطق الساحر البسيط الرزين، وهذا هو صلاح حافظ كما عرفته الآلاف من قراء روز اليوسف منذ بضع سنوات في بابه المشهور «انتصار الحياة». وصلاح ليس صديقي وزميلي في مهنة القلم فقط، ولكنه أهم من هذا زميل في مهنة المشرط، ومنذ أربعة عشر عاما كنا في كلية الطب ومعنا الزميل الكشر الغضوب محمد يسري أحمد كاتب القصة العملاق الذي أصبح الآن مفتشا لصحة القناطر الخيرية، جمعتنا معا علاقتنا المشتركة بالمرحوم الدكتور إبراهيم ناجي وجلساتنا الطويلة في إيزافتش والتافرنا، وصولات النقاش وجولاته حول الفن والشعر والحياة.
وعلاقتي بصلاح حافظ بالذات تمت عن طريق القصة؛ ففي مجلة «القصة» قرأت يوما قصة دوختني اسمها «الذبابة»، رحت أتصور كاتبها وكأنه نصف إله. وإذا بي أروع بعد بضعة أيام ونحن نجتمع لإصدار مجلة لطلبة كلية الطب أن أحد المجتمعين معنا، بل أضألهم جسدا وأرقهم عودا، هو صلاح حافظ كاتب قصة الذبابة . يومها لم أصدق عيني ولا تصورت مطلقا أن يطلع كاتب القصة التي جننت بها طالبا معي في نفس الكلية وفي الدفعة. كيف يتسنى لطالب طب مثله أن يكتب قصة بهذه الروعة؟! وكيف أصدق أن لي زميلا آخر يشاركني نفس هواية القصص؟ بل أكثر من هذا أن تكون قد وصلت به هوايته حد نشر إنتاجه في مجلة «القصة»؟
ولو كنت قد سمحت لنفسي بالتصور كيفما شئت، لما أمكن لخيالي أن يعبر الزمن وأن يتصور أن هذا الاجتماع من أجل إصدار مجلة سيحدد خط علاقة طويلة لسنين كثيرة مقبلة، بلغت إلى الآن كما قلت أكثر من أربعة عشر عاما.
واليوم ها هو ذا صلاح حافظ بدمه ولحمه وابتسامته قد عاد، ولكن المشكلة أني سأظل أعتبره غائبا إلى أن يكتب، وإلى أن يتاح لي مرة أخرى أن أقرأ أبسط أسلوب كتب في الصحافة المصرية، مع الدقة المثالية في اختيار كل لفظ، والذكاء الشديد في إيراد الحجج والأدلة، إلى درجة أني وأنا طبيب امتياز سألني أستاذنا الدكتور أحمد حافظ موسى عن ذلك الطبيب الحاذق العلامة الذي يكتب باب انتصار الحياة في روز اليوسف، وحين أخبرته أن كاتبها ليس طبيبا ولكنه طالب طب لا يزال، بل أيامها كان لا يزال في المشرحة وأمامه للتخرج ثلاث سنوات. حين قلت هذا للدكتور حافظ موسى لم يصدقني واعتبر كلامي هزلا، ولكن، هذا هو بالضبط صلاح حافظ وقدرته الخارقة على التبسيط والإقناع.
نغمة اليوم في العراق
بغداد
والطائرة تحلق بنا فوق بغداد كانت خواطر كثيرة تتدافع إلى رأسي، بغداد؛ عاصمة العز والخلافة، حاملة مجد أبي جعفر المنصور، شاهدة واقعة البرامكة، وصاحبة أقرب وأعنف تاريخ. كانت أسماء من التي طالما سمعناها بقوة وبإصرار تتردد: الكاظمية والأعظمية والكرخ، ووزارة الدفاع ومعسكر الرشيد، بغداد عاصمة العراق؛ بغداد التي ما أوسع وأرحب ما حكمت، وما أكثر ما ضيق عليها الخناق. ها أنا ذا، لأول مرة على وشك أن أراها. إن كل مدينة عظيمة لها - كالكائن الحي - شخصية وسمعة وتاريخ وترتبط في ذهن كل منا بعشرات من الخيوط المنظورة والخفية، وكالشخصية العظيمة لا بد أن تحس وأنت تتأهب للقائها بالشوق المقرون بالرهبة؛ رهبة أن يخيب الأمل.
وما كدنا نصبح في شوارع بغداد حتى كان المساء قد حل، والأضواء كثيرة في بغداد؛ فالكهرباء رخيصة، والليل والأضواء أضفيا على بغداد السحر الذي يجعلك تقع في حب المدينة من أول نظرة. وبغداد مدينة فريدة في بابها؛ فهي ليست مثل باقي المدن لها وسط تجاري مزدحم وحواف وضواح قليلة الحركة والازدحام. إنها تكاد تكون عدة مدن يكاد يكون لكل مدينة كيانها الخاص واستقلالها؛ مدن وأحياء تفصلها عن بعضها مساحات واسعة من الأرض الفضاء، حتى لنعجب لوجود هذه المئات من الأفدنة المأهولة في قلب مدينة بغداد، والعمارات قليلة، ومعظم المدينة مكون من بيوت صغيرة وفيللات؛ وضع كانت نتيجته أن اتسعت رقعة المدينة اتساعا غير معقول، وليس في بغداد ترام ولا زحام، والحركة هادئة، والناس طيبون، تحدثهم فيفيض حديثهم رقة وعذوبة، وحتى مظاهراتهم تحفل بالشعر والهتافات المنغمة والأهازيج الشعبية وكثير من الفصاحة، حتى لتعجب بعد هذا وتحتار: أتصدق ما تلمسه وتراه، أم تصدق الوجه الآخر، الوجه العابس الغاضب لهذا الشعب؟
وتحتار أكثر حينما يشبع نهمك إلى السياحة والتفرج وحب الاستطلاع، وتبدأ تدرس الأوضاع السياسية والاجتماعية في بغداد والعراق. تحتار لأنك تجد نفسك أمام أوضاع معقدة غاية التعقيد، وأمام تيارات متضاربة ومتشعبة ومتلاقية ومختلفة ومتنافرة ومتآلفة بحيث لا بد من مرور زمن طويل قبل أن تبدأ تفهم الخريطة المليئة بالعلامات والشعارات والحفائر التاريخية والرموز.
وكثير من الباحثين والمعلقين يعطون أهمية كبيرة للتقسيمات الفئوية والقومية في العراق، ويضعون خطوطا فاصلة وعميقة بين الشيعة والسنة وبين الأكراد والعرب والأشوريين والتركمان، ولكني لا أعتقد أن هذه الخطوط تذهب إلى أعمق من السطح، كل ما في الأمر أن للشعب في العراق ولمثقفيه على مر العصور سمة رئيسية وخطيرة في الوقت نفسه، هي التي تعطي للصورة هذا الشكل الحاد للتقسيمات.
Halaman tidak diketahui