ـ[إظهار الحق]ـ
المؤلف: محمد رحمت الله بن خليل الرحمن الكيرانوي العثماني الهندي الحنفي (المتوفى: ١٣٠٨هـ)
دراسة وتحقيق وتعليق: الدكتور محمد أحمد محمد عبد القادر خليل ملكاوي، الأستاذ المساعد بكلية التربية جامعة الملك سعود - الرياض
الناشر: الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد - السعودية
الطبعة: الأولى، ١٤١٠ هـ - ١٩٨٩ م (أول طبعة تصدر مقابلة على نسختي المؤلف الذهبيتين المخطوطة والمقروءة)
عدد الأجزاء: ٤ أجزاء في ترقيم مسلسل واحد
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
Halaman tidak diketahui
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
الحمد لله الذي لم يتخذ ولدًا، ولم يكن له شريك في ملكه أبدًا، فسبحان الذي أنزل على عبده الكتاب، وجعله تبصرةً وَذكرى لأولي الألباب، وكشف نقاب الحق عن وجه اليقين بدلائل آياته، ونصب على منصته أعلام الهداية ليحق الحق بكلماته، حتى انقطعت دون محجته حجج أقوام بظواهر شبهِها يتظاهرون، وهم ﴿يريدونَ لِيُطْفئِوا نورَ الله بأفواهِهِم ويَأبَى الله إلاَّ أَنْ يُتِمَّ نورَه ولو كَرِه الكافرون﴾ والصلاة والسلام على مَن سفرت معجزات نبوّته بأَحسنِ المطالع، وظهرت شعائر شريعته، فنسختْ معالِمَ الأديانِ والشرائع، أرسله مولاه بالهدى ودين الحق ليظهرَه على الدين كله، وأيده بمحكم كتابٍ أعجزَ البلغاءَ عن أنْ يأتوا بسورة من مثلِه سيدنا محمد الذي
1 / 3
بشَّر بظهوره التوراةُ والإنجيل، وتحققت بوجوده دعوة أبيه إبراهيم الخليل، صلى الله عليه وعلى آله، الفائزين باتباع شريعته، السالكين منهج الإصابة في اقتفاء طريقته، وصحبه الذين وصل الله بالإسلام بينهم، حتى صاروا أشدّاء على الكفار رحماء بينهم.
1 / 4
(أما بعد) فيقول العبدُ الراجي إلى رحمة ربه المنان، رحمة الله بن خليل الرحمن، غفر الله له ولوالديه، وأحسن إليهما وإليه: أن الدولة الإنكليزية لما تسلطت على مملكة الهند تسلطًا قويًا، وبسطوا بساط الأمن والانتظام بسطًا مرضيًا، ومن ابتداء سلطنتهم إلى ثلاث وأربعين سنة، ما ظهرت الدعوة من علمائهم إلى مذهبهم، وبعدها أخذوا في الدعوة وكانوا يتدرجون فيها، حتى ألفوا الرسائل والكتب في رد أهل الإسلام، وقسموها في الأمصار بين العوام، وشرعوا في الوعظ في الأسواق، ومجامع الناس، وشوارع العامة وكان عوام أهل الإسلام إلى مدة متنفرين عن استماع وعظهم ومطالعة رسائلهم، فلم يلتفت أحد من علماء الهند إلى رد تلك الرسائل، لكن تطرق الوهن بعد مدة، في نفور بعض العوام، وحصل خوف مزلة أقدام بعض الجهال الذين هم كالأنعام، فعند ذلك توجه بعض علماء أهل الإسلام إلى ردهم، وإني وإن كنت منزويًا في زاوية الخمول، وما كنت معدودًا في زمرة العلماء الفحول، ولم أكن أهلًا لهذا الخَطبْ العظيم الشأن، لكني لما اطلعت على تقريراتهم، وتحريراتهم، ووصلت إليَّ رسائل
1 / 5
كثيرة من مؤلفاتهم، استحسنت أن أجتهد أيضًا، بقدر الوَسع والإمكان، فألفت أولًا الكتب والرسائل، ليظهر الحال على أولي الألباب، واستدعيت ثانيًا من القسيس الذي كان بارعًا وأعلى كعبًا من العلماء المسيحية الذين كانوا في الهند مشتغلين بالطعن والجرح على الملة الإسلامية، تحريرًا وتقريرًا، أعني مؤلف (ميزان الحق) أن يقع بيني وبينه مناظرة، في المجلس العام، ليتضح حق الاتضاح أن عدم توجه العلماء الإسلامية ليس لعجزهم عن رد رسائل القسيسين كما هو مزعوم بعض المسيحيين، فتقررت المناظرة في المسائل الخمس التي هي أمهات المسائل المتنازعة بين المسيحيين والمسلمين أعني: التحريف والنسخ، والتثليث، وحقية
القرآن، ونبوّة
1 / 6
محمد ﷺ؛ فانعقد المجلس العام في شهر رجب سنة ألف ومائتين وسبعين من هجرة سيد الأولين والآخرين ﷺ في بلدة أكْبَر أبادْ.
وكان بعض الأحباء المكرَّم أطال الله بقاءه، معينًا لي في هذا المجلس، وكان بعض القسيسين معينًا للقسيس الموصوف، فظهرت الغلبة لنا بفضل الله في مسألتي النسخ والتحريف اللتين كانتا من أدق المسائل وأقدمها في زعم القسيس، كما تدل عليه عبارته في كتاب حل الإشكال، فلما رأى ذلك سَدَّ باب المناظرة في المسائل الثلاث الباقية. ثم وقع لي الاتفاق أن وصلت إلى مكة شرفها الله تعالى وحضرت عتبة الأستاذ العلامة والنحرير الفهامة، عين العلم والدراية، ينبوع الحكم والرواية، شمس الأدباء، تاج البلغاء، مقدام المحققين، سند المدققين، إمام المحدثين، قدوة الفقهاء والمتكلمين، فلذة كبد البتول، سمي الرسول المقبول، سيدي وسندي ومولاي السيد أحمد بن زيني دحلان، أدام الله فيضه إلى يوم القيام، فأمرني أن أترجم باللسان
1 / 7
العربي هذه المباحث الخمسة من الكتب التي ألفت في هذا الباب، لأنها كانت إما بلسان الفرس، وإما بلسان مسلمي الهند.
وكان سبب تأليفي في هذين اللسانين أن اللسان الأول مألوف المسلمين في تلك المملكة، واللسان الثاني لسانهم، وأن القسيسين الواعظين المقيمين في تلك المملكة ماهرون في اللسان الثاني يقينًا، وواقفون على اللسان الأول أيضًا قليلًا، سيما القسيس الذي ناظرني فإنه كانت مهارته في الأول أشد من الثاني، ورأيت إطاعة أمر مولاي بمنزلة الواجب، وشمرت عن ساق الجد لامتثال أمره فأرجو ممن سلك مسلك الإنصاف، وتنكب عن طريق الاعتساف، أن يستر خطآتي، ويجر قلم الإصلاح على هفواتي، وأسأل الله الميسر لكل صعاب أن يمن عليَّ بما يرشدني إلى الحق والصواب، ويجعل هذا الكتاب مقبولًا لدى الأنام، منتفعًا به الخاص والعام، ويصونه عن شبهات المبطلين، وأوهام المنكرين، وهو الولي للتوفيق، وبيده أزمة التحقيق، وهو على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، وسميته (إظهار الحق) ورتبته على مقدمة وستة أبواب.
1 / 8
المقدمة في بيان الأمور التي يجب التنبيه عليها
(الأول) أني إذا أطلقت الكلام في هذا الكتاب في موضع من المواضع فهو منقول عن كتب علماء (البروتستنت) بطريق الإلزام والجدل، فإن رآه الناظر مخالفًا لمذهب أهل الإسلام فلا يقع في الشك، وإذا نقلت عن الكتب الإسلامية أشرت إليه غالبًا إلا أن يكون مشهورًا.
(الثاني) أن النقل غالبًا في هذا الكتاب من كتب فرقة البروتستنت سواء كانت تراجم أو تفاسير أو تواريخ، لأن هذه الفرقة هي المتسلطة على مملكة الهند، ومن علمائها وقعت المناظرة والمباحثة، ووصلت إلى كتبها، وقليلًا ما يكون عن كتب فرقة الكاثوليك أيضًا.
(الثالث) أن التبديل والإصلاح بمنزلة الأمر الطبيعي لفرقة البروتستنت، ولذلك ترى أنه إذا طبع كتاب من كتبهم مرة أخرى يقع غالبًا فيه تغيير كثير بالنسبة إلى المرة الأولى، إما بتبديل بعض المضامين أو بزيادتها أو نقصانها، أو تقديم المباحث وتأخيرها فإذا قوبل المنقول عن كتبهم بالكتب المنقول عنها، فإن كانت تلك الكتب مطبوعة من جنس الكتب التي نقل عنها الناقل فيخرج النقل مطابقًا وإلا فخرج غير مطابق غالبًا، فمن لم يكن واقفًا على عادتهم يظن أن الناقل أخطأ والحال أنه مصيب، وحصل هذا الأمر من
1 / 9
عادات هؤلاء القسيسين، ووقعت أنا أيضًا في المغالطة مرتين قبل العلم بعادتهم، فلا بد أن يكون الناظر في هذا الأمر على تنبه تام؛ لئلا يقع في الغلط أو يوقعه أحد فيه، ولئلا يتهم الناقل. وأنا أبين الكتب التي أنقل عنها فأقول: الكتب المذكورة هذه:
[١] ترجمة الكتب الخمسة لموسى ﵇ في اللسان العربي التي طبعها وليم واطس في لندن سنة ١٨٤٨ من الميلاد على النسخة المطبوعة في الرومية العظمى سنة ١٢٦٤
[٢] ترجمة كتب العهد العتيق والجديد كلها في اللسان العربي التي طبعها وليم واطس المذكور أيضًا سنة ١٨٤٤ وجعل في هذه الترجمة الزبور التاسع والعاشر زبورًا واحدًا، وقسم الزبور المائة والسابع والأربعين إلى قسمين وجعله زبورين، فصار فيها عدد الزبورات ما بين العاشر والمائة والسابع والأربعين أقل منها بواحد بالقياس إلى التراجم الأخرى وفيما عداها متفقة، فلو وجد الناظر الاختلاف في هذا الأمر بالنسبة إلى التراجم الأخرى فلا بد أن يحمل على ما ذكرت
[٣] ترجمة العهد الجديد باللسان العربي وطبعت في بيروت سنة ١٨٦٠ ونقلت عبارة العهد الجديد غالبًا عن هذه الترجمة لأن عبارتها ليست
1 / 10
ركيكة مثل عبارة الترجمة الأولى
[٤] تفسير آدم كلارك على العهد العتيق والجديد الذي طبع في لندن سنة ١٨٥١
[٥] تفسير هورن الذي طبع في لندن سنة ١٨٨٢ في المرة الثالثة
[٦] تفسير هنري واسكات الذي طبع في لندن
[٧] تفسير لاردنر الذي طبع في لندن سنة ١٧١٧ في عشرة مجلدات
[٨] تفسير دوالي ورجردمينت الذي طبع في لندن سنة ١٨٤٨
[٩] تفسير هارسلي
[١٠] كتاب واتسن
[١١] ترجمة فرقة البروتستنت بلسان الإنكليز المثبت عليها الخاتم المطبوعة سنة ١٨١٩ وسنة ١٨٣٠ وسنة ١٨٢١ وسنة ١٨٣٦
[١٢] ترجمة العهد العتيق والجديد لرومن كاثلك بلسان الإنكليز وطبعت في دبلن سنة
1 / 11
١٨٤٠، وما سواها من كتب أخرى أيضًا يجيء ذكرها في مواضعها وهذه الكتب في بلاد تسلط عليها الإنكليز، كثيرة الوجود فمن شك فليطابق النقل بأصله.
(الرابع) إن صدر عن قلمي في موضع من المواضع لفظ يوهم بسوء الأدب بالنسبة إلى كتاب من كتبهم المسلّمة عندهم، أو إلى نبي من الأنبياء ﵈، فلا يحمل الناظر عليَّ سوء اعتقادي بالنسبة إلى الكتب الإلهية، والأنبياء ﵈؛ لأن إساءة الأدب إلى كتاب من كتب الله أو إلى نبي من الأنبياء ﵈ من أقبح المحذورات عندي أعاذني الله وجميع أهل الإسلام منها. لكن لما لم يثبت كون الكتب المسلمة عندهم المنسوبة إلى الأنبياء بحسب زعمهم كتبًا إلهية بل ثبت عكسه وثبت أن بعض مضامين هذه الكتب يجب على كل مسلم أن ينكره أشد الإنكار، وثبت أن الغلط والاختلاف والتناقض والتحريف واقعة فيها جزمًا فإني معذور في أن أقول: إن هذه الكتب ليست كتبًا إلهية وأن أنكر بعض القصص مثل: أن لوطًا شرب الخمر وزنى بابنتيه وحملتا بالزنا منه، أو أن داود ﵇ زنا بامرأة أوريا وحملت بالزنا منه، وأشار إلى أمير العسكر لأن يدبر أمرًا يقتل به
1 / 12
أوريا فأهلكه بالحيلة، وتصرف في زوجته، وأن هارون صنع عجلًا وبنى له مذبحًا فعبده هارون مع بني إسرائيل وسجدوا له وذبحوا الذبائح أمامه، وأن سليمان ارتد في آخر العمر وعبد الأصنام وبنى المعابد لها،
1 / 13
ولا يثبت من كتبهم المقدسة أنه تاب بل الظاهر أنه مات مرتدًا مشركًا. فإن هذه القصص وأمثالها يجب علينا أن ننكرها ونقول إنها غير صحيحة جزمًا، ونعتقد اعتقادًا يقينيًا أن ساحة النبوة بريئة من أمثال هذه الأمور القبيحة.
وكذا معذور في أن أقول للغلط إنه غلط، وهكذا فلا يناسب لعلماء البروتستنت أن يشكوا في هذا الباب، ألا يرون إلى أنفسهم كيف يتجاوزون الحد في مطاعنهم على القرآن المجيد والأحاديث النبوية والنبي ﷺ؟ وكيف يصدر عن أقلامهم ألفاظ غير ملائمة؟ لكن الإنسان لا يرى عيب نفسه ولو كان عظيمًا ويتعرض لعيب غيره ولو كان صغيرًا، إلا من فتح الله عين بصيرته ولنعم ما قال المسيح ﵇: (لماذا تنظر القذى الذي في عين أخيك وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها؟ أم كيف تقول لأخيك دعني أخرج القذى من عينك، وها الخشبة في عينك يا مرائي. أخرج أوّلًا الخشبة من عينك وحينئذ
1 / 14
تبصر جيدًا أن تخرج القذى من عين أخيك) كما هو مصرح في الباب السابع من إنجيل متى.
(الخامس) قد تخرج كلمة تثقل على المخالف ألا ترى أن المسيح ﵇ كيف خاطب الكتبة والفريسيين مشافهة بهذه الألفاظ (ويل لكم أيها الكتبة الفريسيون المراءون وويل لكم أيها القادة العميان، وأيها الجهال العميان، وأيها الفريسي الأعمى، وأيها الحيات والأفاعي كيف تهربون من دينونة جهنم) وأّظْهَرَ قبائحهم على رؤوس الأشهاد حتى شكا بعضهم بأنك تشتمنا، كما هو مصرح في الباب الثالث والعشرين من إنجيل مَتَّى، والباب الحادي عشر من إنجيل لوقا، وكيف أطلق لفظ الكلاب على الكنعانيين الذين كانوا كافرين، كما هو مصرح في الباب الخامس عشر من إنجيل متى، وكيف خاطب يحيى ﵇ اليهود بقوله: "يا أولاد الأفاعي من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي"، كما هو مصرح في الباب الثالث من إنجيل متى، سيما في مناظرات العلماء الظاهرية تقع أمثال هذه الكلمات بمقتضى البشرية، ألا ترى إلى
1 / 15
مُقْتَدى فرقة البروتستنت ورئيس المصلحين جناب لوطر كيف يقول في حق الذي كان مقتدى المسيحيين وفي عهده أعني البابا معاصِرَه وكيف يقول في حق السلطان الأعظم والملك الأفخم هنري الثامن ملك لندن، وأنقل بعض أقواله بطريق الترجمة عن الصفحة ٢٧٧ من المجلد التاسع من (كاثُلك هرلد) وادعى صاحبه أنه نقل هذه الأقوال عن المجلد الثاني والسابع من المجلدات السبعة التي لجناب رئيس المصلحين.
قال الرئيس الممدوح في الصفحة ٢٧٤ من المجلد السابع المطبوع سنة ١٥٥٨ في حق البابا: "هكذا أنا أول من طلبه الله لإظهار الأشياء التي يوعظ بها فيما بينكم، وإني أعلم أن كلام الله المقدس عندكم، امش مشيًا هينًا يا بولسي الصغير، واحفظ نفسك يا حماري من السقوط احفظ نفسك يا حماري البابا، ولا تقدم يا حماري الصغير لعلك تسقط وتنكسر الرجل؛ لأن الهواء في هذا العام قليل جدًا حتى أن الثلج يوجد فيه دسومة كثيرة، وتزل فيه الأقدام، فإن سقطت فيستهزئ الخلق، إن أي أمر شيطاني هذاأبعدوا عني، أيها الأشرار الغير المبالين الحمقاء الأذلاء الحمير، أأنتم تخيلون أنفسكم أنكم أفضل من الحمير، إنك أيها البابا حمار بل حمار أحمق وتبقى حمارًا دائمًا"، ثم قال في الصفحة ٤٧٤ من المجلد المسطور هكذا: (لو كنتُ حاكمًا
1 / 16
لحكمت أن يكتّف الأشرار البابا ومتعلقوه ثم يغرقوا في "استيا" الذي من الروم على ثلاثة أميال وههنا غدير عظيم) يعني البحر (لأنه حَّمام جيد لحصول الشفاء للبابا، وجميع متعلقيه من جميع الأمراض والضعف، وإني أعطي قولي بل أعطي المسيح كفيلًا على أني لو أغرقتهم إغراقًا لينًا إلى نصف ساعة لبروءا من جميع الأمرض اهـ)، وقال في الصفحة ٤٥١ من المجلد المذكور: (إن البابا ومتعلقيه زمرة الأشرار المفسدين الخادعين الكاذبين وكنيف الأشرار الذي هو مملوء من أعظم الشياطين الجهنميين، وهو مملوء بحيث يخرج من بصاقه ومخاطه الشياطين) وقال في الصفحة ١٠٩ من المجلد الثاني المطبوع سنة ١٥٦٢ (قلت أولًا إن بعض مسائل جان هس مسائل الإنجيليين، والآن أرجع عن هذا القول وأقول: ليس البعض بل كل مسائله التي ردها الدجال وحواريه في محفل كون ستس، وأقول لك مشافهة أيها النائب المقدس لله: إن جميع مسائل
1 / 17
جان هس المردودة واجبة التسليم، وكل مسألة من مسائلك شيطانية
كفرية، فلذلك أسلم مسائل جان هس المردودة وأستعد لتأييدها بفض الله) .
وكان من مسائل جان هس (أن السلطان أو القسيس إذا ارتكب كبيرة من الكبائر لا يبقى سلطانًا وقسيسًا) فلما كانت جميع مسائله مسلّمة عند رئيس المصلحين كانت هذه المسألة أيضًا مسلمة فعلى هذا لا يخرج أحد من مقتديه أهلًا للسلطنة والقسيسية، لأنه لا يوجد أحد منهم لا يصدر عنه كبيرة من الكبائر، والعجب كل العجب أن العصمة ليست شرطًا للأنبياء، وهم ما كانوا معصومين عند الرئيس، وتشترط للسلطان والقسيس. لعل منصب النبوة أدون من منصب القسيسية عنده.
وأما ألفاظ الرئيس المذكور في حق السلطان الأعظم هنري الثامن فهذه: قال في الصفحة ٢٧٧ من المجلد السابع المطبوع سنة ١٥٥٨ هكذا:
1 / 18
[١] لا ريب أن لوطر يخاف إذا بذل السلطان هذا القدر من ريقه في الكذب واللغو [٢] إني أتكلم مع الكاذب الديوث ولما لم يراع هو لأجل الحمق منصبه السلطاني فلم لم أرد كذبه في حلقومه [٣] أيها الحوض الخشبي الجاهل أنت تكذب وسلطان أحمق سارق الكفن [٤] كذا بلغو هذا السلطان الأحمق الْمُصِرُّ) .
والظاهر أن أمثال هذه الألفاظ يكون إطلاقها على الخصم جائزًا عند علماء البروتستنت إلا أن يقولوا إنها وقعت منهم بمقتضى البشرية، فأقول إني إن شاء الله لا أذكر عمدًا لفظًا يوازن لفظًا من ألفاظ مقتداهم في حق العلماء المسيحية، لكن لو صدر من غير العمد لفظ لا يكون مناسبًا لشأنهم في زعمهم أرجو منهم المسامحة والدعاء؛ قال المسيح ﵇: (باركوا لأعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم) كما هو مصرح في الباب الخامس من إنجيل متى.
(السادس) إنه كثر في ديار أوربا وجود الذين يعبر علماء البروتستنت عنهم بالملاحدة، وهم ينكرون النبوة والإلهام، ويستهزؤون بالمذاهب سيما
1 / 19
بالمذهب المسيحي، ويسيئون الأدب بالنسبة إلى الأنبياء سيما بالنسبة إلى المسيح ﵇، ويزيدون في الديار المذكورة يومًا فيومًا، واشتهرت كتبهم في أقطار العالم فيجيء نقل أقوالهم أيضًا على سبيل القلة في هذا الكتاب، فلا يظن من هذا النقل أحدٌ أني أستحسن أقوالهم وأفعالهم، حَاشا وكَلاَّ لأن منكر نبي من الأنبياء الذين ثبتت نبوتهم عندنا سيما منكر المسيح ﵇ كمنكر محمد ﷺ، بل النقل لتنبيه علماء البروتستنت ليعلموا أن ما أوردوا على الملة الإسلامية ليس بشيء بالقياس مما أورد أهل ديارهم وصنْفهم على الملة المسيحية.
(السابع) إن عادة أكثر علماء البروتستنت في تحرير جواب المخالف جارية بأنهم يتفحصون في كتابه بنظر العناد والاعتساف، فإن وجدوا في جميع الكتاب الأقوال القليلة ضعيفة اغتنموها ونقلوها لتغليط العوام، ثم يقولون: إن جميع كتابه من هذا القبيل، والحال أنهم ما وجدوا مع غاية تفحصهم إلا القدر المسطور، ثم بعد ذلك يأخذون أقوال المخالف حيث يقدرون على التأويل والجواب، ويتركون الأقوال القوية بالمرة ولا يشيرون إليها أيضًا،
1 / 20
ولا ينقلون جميع عبارة كتابه في الرد ليظهر على الناظر حال كلام الجانبين، بل يصدر عنهم الخيانة، تارة في النقل فيحرّفون كلامه، وغرضهم الأصلي إيقاع الناظر في مغلطة ليظن بملاحظة بعض الأقوال التي نقلوها أن كلام المخالف كله كما قالوا وهذه العادة غير مستحسنة، ومن كان واقفًا عليها يجزم أنهم ما وجدوا في كتاب المخالف إلا هذا القدر، وظاهر أنه لا يلزم منه على تقدير صحة النقل أيضًا ضعف كتاب المخالف كله سيما إذا كان كبيرًا، لأن الكتاب إذا لم يكن إلهاميًا يوجد فيه عادة أقوال ضعيفة، لأن كلام البشر يتعسر خلوه عن هذا، كما قيل لكل صارم نبوة ولكل جواد كبوة، وأول ناسٍ أولُ الناس، والعصمة عن الخطأ والسهو والضعف عندنا خاصة الكلام الإلهامي والكتاب الإلهامي لا غير، ألا يرون أنه لا يوجد محقق من محققيهم من زمانِ إمام الفرقة جناب (لوطر) إلى هذا الحين بحيث لا يكون في كلامه خطأ أو ضعف في موضع من المواضع من تصنيفاتهم، وإلا فعليهم
1 / 21