Ittihaf Abna Casr
إتحاف أبناء العصر بتاريخ ملوك مصر
Genre-genre
وبقرب هذا الزمان نشأت حروب بين اليونان سميت بالحروب المقدسة، سببها أن أهل قوسيا وضعوا أيديهم على أرض تابعة لهيكل «أوبلون» في «دلفوس»، وحكمت عليهم المشورة الأمفكتيونية أن يدفعوا مبلغا وافرا للتكفير عن هذا الذنب، فلم يخضعوا لهذا الحكم، بل زعموا بأنهم أحق من غيرهم بتدبير أوقاف الهيكل وصيانتها، فاضطربت عند ذلك حروب مدة عشر سنين بين «قوسيا» و«أتينا» و«إسبارطة» من جهة وطيوة ولوكريا وتساليا من جهة أخرى، فعرض «فيلبش» نفسه وسيطا أو مصلحا بينهم وصيروه عضوا من أعضاء المشورة الأمفكتيونية خلافا لإرادة الأتينيين؛ إذ كان «ديموستين» الخطيب بأتينا يحذرهم دائما من فيلبش، ويريهم أن مقاصده نزع حريتهم وإخضاعهم تحت سلطنته، وبعد ذلك وضع أهل «لوكريا» أيديهم على أوقاف الهيكل المذكور، وأبوا الخضوع للمشورة الأمفكتيونية، فدعت المشورة فيلبش؛ لكي يجري حكمها غصبا، ولما أجابهم متقدما إلى بلاد اليونان بجيشه رأى «ديموستين» نتائج عمله فتوجه إلى إخضاع البلاد، فحرض أهل أتينا وطيوة على مقاومته، فجمعوا جيشا ولكن هزمهم فيلبش في واقعة كيرونيه «في بيوثيا»، واستولى على بلاد اليونان، وإذ كان مستعدا لمحاربة الفرس قتله بوزانياس أحد أتباعه في السنة السابعة والأربعين من عمره، وخلفه ابنه الإسكندر الآتي ذكره.
ذكر الإسكندر الأكبر 336-323ق.م
تولى بعد موت أبيه فيلبش، ويعرف في التواريخ باسم إسكندر الأكبر الرومي، ويلقب بذي القرنين (غير ذي القرنين المذكور في القرآن الشريف)، وهو صاحب الفتوحات العجيبة التي خلدت اسمه في دفاتر مشاهير المؤرخين.
واعلم أن غزوة الإسكندر للبلاد الفارسية هي أعظم حادثة حفظها التاريخ بعد الحروب الميدية وأجلها شهرة ونفعا، كيف لا وقد أقامت الحروب الميدية التمدن من مهده، فأرشدته تلك العزوة وهو في شرخ شبابه طريق رفعته وفوزه! وكان ذلك أول القتال الذي انتشب بين التمدن والهمجية؛ حيث لم يكن قبلا يتجاسر على نزال خصمه، فمن سعده وحسن حظه أنه انقلب على عقبيه مدبرا ونجا بعمره، فنما مستقلا في ركن من زوايا الأرض وترك المملكة لخصمه، فخرج أخيرا بعد كسرته وأقبل بعد أدباره تحت كنف الإسكندر، فوضع قدميه في ساحة القتال ونازع خصمه في ملكية الأرض، فكأن أوجدت هذه الغزوة شيئا جديدا، ألا وهو التمدن.
ولم تكن هذه الغزوة على نهج الغارات البربرية والغزوات الوحشية التي سبقتها، بل كان الإسكندر بدل أن يقهر بالقوة غلب بالحيل، وقد كان يشيد ولا يهدم، ويرفع ولا يضع، خلا بعض مدارس الكهنة الذين كانوا يخفون ما عندهم من العلم على قلته، فلم ينفعهم ما جمعوا ولا أغنى عنهم ما كسبوا، بل دمر مساكنهم وأحرقها، فلم تسمع لها بعد ذلك ركزا، ولم يصادف الإسكندر في طريقه إلا همجية تتبجح بدعوى المال عارية عن الفضائل ومرزبانات وأرقاء ليسوا بأناس فانتشرت سلطة اليونان في النفوس والعقول، وخلع الناس ناف الذل والبلاء، فكانت هذه التجريدة بعثة نورا وهدى للناس الذين استعبدتهم الدولة الفارسية فوقاهم الله شر ذلك، ونجاهم بهذا القائد الذي اتصف بذكاء الرسل وفطنة الأنبياء، ألا ترى أنه كان بعد نصرته يعتبر نفسه أنه تلميذ أرستطاليس، أوليس هو ملك مقدونيا الذي أعطى النصر في مواطن الحروب والمواقف أوليس هو الذي أخضعهم باقتحام المخاطر والمخاوف، وقبل غزوة الإسكندر لم يكن وجود دنيا تستحق هذا الاسم، بل كانت أرضا معمورة بأقوام منفردين يجهلون بعضهم البعض ذوي عوائد وأخلاق مختلفة المقصد قد جمعها قيروش كباقي الملوك المتبربرة، وجعلها مملكة واحدة، وأما غزوة الإسكندر فربطت تلك الأمم بروابط الائتلاف والمودة، وجعلتهم تحت ناموس واحد، فبهذه المثابة علمت كل أمة معارف الأخرى وأفكارها وتعلموا ما لم تتوصل عقولهم إليه، ووقفوا على حقائق الأمور، وتجمعوا حول مصباح معارف اليونان، وبهذا الاتحاد وجد عالم متمدن جدير بهذا الاسم حري، ولم يبارح الإسكندر بلاد اليونان إلا بعد أن أمن على مقدونيا من الأقوام المتبربرين المجاورين لها وبعد أن أخضع بلاد اليونان بأثرها، ولم يخضعها إلا تنفيذا لمآربه؛ هاجم الأقاليم البحرية، وأمر جيشه البري أن يسير وسواحل البحر؛ لكيلا يفصل بينه وبين أسطوله فاصل، وقد استعان بالنظام على العدة بما يقضي العجب، وإذا كان من المحقق أن النصر قد منحه كل شيء، فإنه أيضا عمل كل شيء في نوال النصر، وفي أوائل مشروعه حيث كانت أقل هزيمة تكفي لعكس أمله لم يركن إلى الصدفة إلا في قليل من أموره، ولما أسعفته المقادير بالظفر بالحوادث اتخذ المجازفة من وسائله، وقبل سفره كان قد زحف على الإيليريين، ولما رجع إلى بلاد اليونان لم يفتح طيوة ويهدمها إلا رغم أنفه، فإنه عسكر أمامها مدة؛ ينتظر أن تعقد معه الصلح، فكانوا هم الجانين على أنفسهم، واستعان في هدم قوى الفرس العسكرية بجسارة القائد «بارميتيون» وبمهارة نفسه، فكان من حكمته فصل الفرس عن أسطولهم وإكراههم بأنفسهم الملاحة، وكانوا فيها بارعين، وكانت «صور» تابعة للفرس، وكانوا لا يستغنون عن تجارتها وملاحتها، فأعدمها ودخل مصر التي كان قد تركها دارا بلا حماية حيثما كان يجمع قوته في جهة أخرى.
فعبوره نهر «الجرانيك» سنة 334 ترتب عليه الاستيلاء على المستعمرات اليونانية وواقعة طرسوس أهدته صور وملك مصر، وواقعة إربل - بالقرب من الموصل - سنة 331 قلدته سيادة العالم، وبعد واقعة طرسوس المذكورة ترك دارا واشتغل في تثبيت دعائم فتوحاته وتنظيمها. وأما بعد واقعة إربل تبعه حتى لم يترك له ملجأ في دولته، فكان زحف الإسكندر سريعا جدا، حتى إنه يخيل لنا أن تملكه على العالم كان جزاء له على سيره لا أجرا لما أحرزه من النصر، كما كان يحرز قصب السبق من سبق في ألعاب بلاد اليونان.
فهكذا كان فتح البلاد، فانظر الآن كيف ساسها! لم يطاوع الإسكندر من أراد معاملة اليونان معاملة السادة، والفرس معاملة الأرقاء؛ بل فكر في أن يؤلف بين الأمتين وأن يعدم امتياز الأمة الغالبة على الأمة المغلوبة. وقد ترك بعد الفتح جميع الأوهام والخزعبلات على حالتها وتخلق بأخلاق الفرس وعوائدهم ليرضيهم، وليتقلدوا هم بعوائد اليونان، واحترم غاية الاحترام امرأة دارا ووالدته حين وقعن في قبضته بعد واقعة طرطوس، فأرسل دارا إليه طالبا أن يفدي نساءه بمبلغ وافر وأنه يعقد الصلح معه، ويزوجه بابنته، وأن يجعل صداقها الأراضي الواقعة بين نهري الفرات وبحر الروم، فأجابه الإسكندر أن يسلمه إياهن بشرط إذا جاء بنفسه يطلبهن، فخاف دارا، واستمر حتى ساقه الإسكندر بعد واقعة إربل ثم لم يعلم له أثر بعد ذلك، وقد ذكر المعلم بطرس البستاني في دائرة المعارف أنه مات في السنة الثالثة من حكم الإسكندر.
فاستعمال الرأفة واحترام الديانات واستعمال المشورة في الأمور كل ذلك مما جعل أمة فارس تأسف لفقده، فانظر أيها القارئ - سهل الله إلى نفائس الخيرات طريقك - هذا الفاتح الذي بكت عليه الأمم التي أخضعها بسيفه ورادفها بسهامه، وهذا المغتصب الذي عند موته سكبت عليه العائلة التي اغتصب منها الملك الدموع زفرات وساءهم إعدامه، فتلك آية من آيات حياته ما روى لنا المؤرخون أن أحدا من الفاتحين تباهى بمثلها.
ولما كان يعلم أن لا شيء يؤيد الفتح أكثر من التأليف بين الأمتين تزوج الإسكندر بنساء فارسيات، وأمر معيته كذلك، وقد حزا حزوه بقية أهل مقدونيا، وشيد في بلاد فارس نزلا يونانية وشاد عدة مدن، وأرسى قواعد الدولة الجديدة في جميع أنحائها حتى إنه بعد موته لم ينشر لواء العصيان إقليم بعد طيه، ولكيلا يقلل اليونان والمقدونيين أرسل إلى الإسكندرية طائفة اليهود، ولم يعبث بما اعتادت عليه هذه الأمة ما داموا له من المخلصين، ولم يترك للأمم المقهورة أخلاقهم وعوائدهم فقط، بل ترك لهم قوانينهم المدنية وأيضا ملوكهم وحكامهم الأصليين، وجعل المقدونيين قوادا للجيوش وأهل الشرطة والوطنيين حكاما لجهات الإدارة والقضاء، وكانت ملوك الفرس قد هدمت معابد المصريين وهياكلهم وكذا معابد البابليين واليونان، فأعادها فكأنه لم يفتح أمة إلا ليكون ملكها الخصوصي وليكون أول وطني بها.
وقد جاء بأمرين منكرين وهما حرق مدينة إستخر وقتل «كليتوس» الذي نجاه من الفارسين اللذين قصدا قتله بعد واقعة نهر الجرانيك، إلا أنه ندم على ذلك شديد الندم، حتى إنه أنسى الناس أفعاله القاسية وذكرهم احترامه للفضيلة؛ حيث اعتبرهما من المصائب التي فاجأته في عمره والتي أتى بها من خطأ إرادته.
Halaman tidak diketahui