Istishraq
نقد الاستشراق وأزمة الثقافة العربية المعاصرة: دراسة في المنهج
Genre-genre
فلدى الكثير من أصحاب الاتجاهات الإسلامية تصور للمسيحية على أنها نوع من الإسلام الناقص. وقد أشرنا من قبل إلى الفكرة الإسلامية الواسعة الانتشار التي تقول بوجود إنجيل حقيقي غير الأناجيل المعروفة، كان يتنبأ بظهور نبي اسمه محمد، ثم أخفي عمدا وحلت محله الأناجيل الحالية «المحرفة». هنا يعد الإسلام هو الأصل، وتقاس المسيحية كلها على أساس مدى اقترابها منه. كذلك فإننا أشرنا عند الحديث عن النقد الديني للاستشراق إلى ذلك المقياس الأساسي الذي يضعه كثير من الباحثين الإسلاميين عندما يصدرون حكما تقويميا على مستشرق، وهو مدى اقترابه من الاعتراف بحقائق العقيدة الإسلامية، بغض النظر عن مدى الجهد والإسهام العلمي الذي قام به ذلك المستشرق. وفي هاتين الحالتين يوجد أيضا نوع من «المركزية الإسلامية»، تقاس على أساسها أفكار الحضارة الأخرى. (4)
ولنتأمل صورة أخرى للشرق في كتابات المستشرقين، هي صورة الشرق المغرق في الملذات المادية، تلك الصورة التي ضرب لها إ. سعيد مثلا بشخصية «كوتشوك هانم» عند الأديب الفرنسي فلوبير. فهي نموذج للمرأة الحسية الشهوانية التي لا تشبع ولا ترفض، ... إلخ. وهذا النموذج يتكرر كثيرا لدى المستشرقين بوصفه تعبيرا عن الطبيعة الشرقية بوجه عام.
ومع ذلك، فإن ما لم يشر إليه سعيد هو أن النموذج المضاد، أعني النموذج الروحاني، يكون بدوره صورة تتردد كثيرا لدى المستشرقين. فهناك دائما حديث عن الشرق المتصوف، المتمسك بالقيم العريقة والأصيلة، وهناك افتتان بهذا الشرق الذي يقدم للحياة الإنسانية وجها آخر يكمل الوجه المفرط في عقلانيته لدى الغرب. هذه الصورة الأخرى تحتشد بها كتابات الغربيين منذ جوته حتى جاك بيرك (فضلا عن أنها نغمة مفضلة لدى الأدباء الشرقيين من أمثال طاغور وإقبال وتوفيق الحكيم وحسين هيكل ومحمد كامل حسين).
ومن جهة أخرى، فمن المؤكد أن لدينا في الشرق ميلا أقوى إلى وصف الغرب بالإفراط في المادية والنزعة الحسية. فمعظم كتاباتنا الصحفية الراهنة، وخطبنا في المنابر والمساجد، تحذر الشباب من فساد الغرب وانحلاله الخلقي وإغراقه في الجنس ، وكل شاب عربي يسافر إلى الغرب يعود محملا بقصص (حقيقية أو مختلقة) عن مغامراته مع النساء الغربيات اللاتي لا يرفضن طلبا للشرقي الأسمر. وكلنا نشاهد نظرة النهم التي ينظر بها الرجل الشرقي إلى أية امرأة تصادفه في الطريق بمجرد نزوله من مطار لندن أو باريس، متصورا أنها ستستجيب له وتعجز عن مقاومة إغرائه. بل إن الحياة الغربية بأسرها أصبحت توصف في كتاباتنا بأنها «مادية»، سواء في ذلك الحياة اليومية أم حياة العلم والمعرفة. وقد أصبح تعبير «العلم المادي الغربي» جاريا على الألسن في مجتمعاتنا إلى حد أن الجميع يرددونه دون أدنى تفكير فيما ينطوي عليه من مغالطة وتضليل.
وهكذا فإن الصورة المشوهة في هذا المجال أيضا متبادلة، بل إننا في كثير من الأحيان نشوه الغرب بأكثر مما يشوهنا، لا سيما وأن مصادر معرفتنا ومظاهر احتكاكنا واتصالنا به أكبر وأوسع بطبيعتها من مصادر معرفته بنا، ومن ثم فإن عذرنا في هذا التشويه أقل. (5)
ومن أهم الانتقادات التي توجه إلى التصور الاستشراقي للعالم الشرقي بوجه عام، والعالم الإسلامي بوجه خاص، فكرة «الثبات» كما تطبق على المجتمعات الشرقية. فالمستشرقون ينسبون إلى العالم الشرقي صفة التجمد عند عصر قديم، وعدم الاستعداد لقبول الجديد، وعدم الثقة في التغيير، والعجز عن فهم طبيعة الزمن. وهم يحكمون على الإسلام المعاصر من خلال الإشارة إلى القرآن أو إسلام القرن السابع، مع تجاهل كل التغييرات المعاصرة والتطورات السياسية وتأثير الاستعمار.
17
فهم لا يعترفون بوجود حاضر متميز للشرق، ويردون كل ما هو شرقي معاصر إلى النمط الشرقي التقليدي، وذلك كجزء من نزعتهم إلى التعميم وإرجاع الجزئي أو الخاص إلى أنماط عامة من أمثال: الشرقي، والإسلامي، والعربي، ... إلخ، بحيث إن الحكم على الإنسان الشرقي هو حكم عليه بأنه «شرقي» قبل أن يكون إنسانا. «فليس من الممكن أن نرى الحاضر والأصل معا في أي شعب أكثر مما نرى في الساميين الشرقيين.» والأصول القديمة للشرقيين هي التي تفسر حاضرهم وتجعله مفهوما. وقد لخص رينان الموقف الاستشراقي حين وصف حالة الساميين بأنها من حالات «التطور الموقوف
Development Arrêté »، أي التطور الذي لا يتقدم في الزمان ولا يتجاوز العصر الكلاسيكي.
18
Halaman tidak diketahui