التحذير من الاغترار بالدنيا
قال الله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلهِكُم أَموَلُكُم وَلاَ أَولاَدُكُم عَن ذِكْرِ الله وَمَن يَفعَلْ ذَلِكَ فَأْوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ. وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقنَكُم مِّن قَبلِ أَن يَأْتِي أَحَدَكُمُ المَوتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَولاَ أَخَّرتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ الصَّالِحِينَ. وَلَن يُؤَخِّرَ الله نَفسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَالله خَبِيرُ بِمَا تَعْمَلُونَ.).
وفي كتاب الترمذي قال النبي ﷺ: " أكثروا ذكر هازم اللذات الموت ".
وفي الصحيحين عن ابن عمر ﵄ أن رسول الله ﷺ قال: " ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده " وفي رواية مسلم: " يبيت ثلاث ليال " قال ابن عمر ﵄ ما مرت عليَّ ليلة منذ سمعت رسول الله ﷺ قال ذلك إلا وعندي وصيتي.
وفي صحيح البخاري عن ابن عمر ﵄ قال: " أخذ رسول الله ﷺ بمنكبي وقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وعدّ نفسك من أصحاب القبور " أي لا تركننّ إليها ولا تتخذها وطنًا ولا تحدث نفسك بطول البقاء فيها ولا بالاعتناء بها ولا تتعلق منها بما لا يتعلق به الغريب في غير وطنه. لا تشتغل فيها به الغريب الذي يريد الذهاب إلى أهله، وكان ابن عمر ﵄ يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك.
وقال رسول الله ﷺ: " اثنتان يكرهما ابن آدم يكره الموت والموت خير
1 / 7
للمؤمن من الفتنة ويكره قلة المال وقلة المال أقل الحساب ".
وقال حاتم الأصم: لكل شيء زينة وزينة العبادة الخوف وعلامة الخوف قصر الأمل.
وقيل للحسن ألا تغسل قميصك فقال الأمر أعجل من ذلك.
أعلم أنه يسن لكل واحد من المكلَّفين إكثار ذكر الموت وينبغي أن يستعد له بالتوبة إلى الله تعالى ورد المظالم والمريض أكد لأنه يرق به قلبه ويخاف فيرجع عن المظالم ويقبل على الطاعات.
واعلم أن بني آدم طائفتان طائفة نظروا إلى شاهد خيال الدنيا وتمسكوا بتأميل العمر الطويل ولم يتفكروا في النفس الأخير، وطائفة عقلاء جعلوا النفس الأخير نصب أعينهم لينظروا ماذا يكون مصيرهم، وكيف يخرجون من الدنيا ويفارقونها وإيمانهم سالم وما الذي ينزل معهم من الدنيا في قبورهم وما الذي يتركونه لأعدائهم ويبقى عليهم وباله ونكاله وهذه الفكرة واجبة على كافة الخلق وهي على الملوك وأهل الدنيا أوجب لأنهم كثيرًا ما أزعجوا قلوب الخلق وأدخلوا في قلوبهم الرعب فإن الحقِّ تعالى ذكره ملاكًا يعرف بملك الموت لا مهرب لأحد من مطالبته ونشبته وكل موكلي الملوك يأخذون جعلهم ذهبًا وطعامًا، وهذا الوكيل لا يأخذ سوى الروح جعلًا وسائر موكلي السلاطين تنفع عندهم الشفاعة وهذا الموكل لا تنفع عنده شفاعة شافع وجميع الموكلين يمهلون من يوكلون به اليوم والساعة وهذا الموكل لا يهمل نفسًا واحدًا.
ويروى أنه كان ملك كثير المال قد جمع مالًا عظيمًا واحتشد من كل نوع خلقه الله تعالى من متاع الدنيا ليرفه نفسه ويتفرغ لأكل ما جمعه، فجمع نعمًا طائلة وبنى قصرًا عاليًا مرتفعًا ساميًا يصلح للملوك والأمراء والأكابر والعظماء وركَّب عليه بابين محكمين وأقام عليه الغلمان والأجلاد والحرسة
1 / 8
والأجناد والبوابين كما أراد وأمر بعض الأنام أن يصطنع له من أطيب الطعام وجمع أهله وحشمه وأصحابه وخدمه ليأكلوا عنده وينالوا رفده، وجلس على سرير مملكته واتكأ على وسادته وقال يا نفس قد جمعت أنعم الدنيا بأسرها فالآن أفرغي لذلك وكلي هذه النعم مهنأة بالعمر الطويل، والحظ الجزيل، فلم يفرغ مما حدث نفسه حتى أتى رجل من ظاهر القصر عليه ثياب خلقة ومخلاته في عنقه معلقة على هيئة سائل يسأل الطعام فجاء وطرق حلقة الباب طرقة عظيمة هائلة بحيث تزلزل القصر وتزعزع السرير وخاف الغلمان ووثبوا إلى الباب وصاحوا بالطارق وقالوا يا ضيف ما هذا الحرص وسوء الأدب اصب إلى أن نأكل ونعطيك مما يفضل، فقال لهم قولوا لصاحبكم أن يخرج إليّ فلي إليه شغل مهم وأمر ملم فقالوا له تنح أيها الضيف من أنت حتى نأمر صاحبنا بالخروج إليك، فقال: أنتم عرِّفوه ما ذكرت لكم فلما عرَّفوه قال هلا نهرتموه وجرتم عليه وزجرتموه ثم طرق حلقة الباب أعظم من طرقته الأولى فنهضوا من أماكنهم بالعصي والسلاح وقصدوه ليحاربوه فصاح بهم صيحة وقال: ألزموا أماكنكم فأنا ملك الموت وطاشت حلومهم وارتعدت فرائضهم وبطلت عن الحركة جوارحهم فقال الملك قولوا له ليأخذ بدلًا مني وعوضًا عني فقال ما آخذ إلا روحك ولا أتيت إلا لأجلك لأفرق بينك وبين النعم التي جمعتها والأموال التي حويتها وخزنتها فتنفس الصعداء وقال لعن الله هذا المال الذي غرني وأبعدني ومنعني من عبادة ربي وكنت أظن أنه ينفعني فاليوم صار حسرتي وبلائي وخرجت صفر اليدين منه وبقي لأعدائي فأنطق الله تعالى المال حتى قال لأي سبب تلعنني العن نفسك فإن الله تعالى خلقني وإياك من تراب وجعلني في يدك لتتزود بي إلى آخرتك وتتصدق بي على الفقراء وتزكي بي على الضعفاء ولتعمر بي الربط والمساجد والجسور والقناطر لأكون عونًا لك في اليوم الآخر جمعتني وخزنتني وفي هواك أنفقتني ولم تشكر حقي بل كفرتني فالآن تركتني لأعدائك وأنت بحسرتك وبلائك فأي ذنب لي فتسبني وتلعنني، ثم إن ملك الموت قبض روحه قبل أكل الطعام فسقط على سريره صريع الحمام:
1 / 9
تجهز إلى الأجداث ويحك والرمس ... جهازًا من التقوى لأطول ما حبس
فإنك لا تدري إذا كنت مصبحًا ... بأحسن ما ترجو لعلك لا تمسي
سأتعب نفسي كي أصادف راحة ... فإن هوان النفس أكرم للنفس
وأزهد في الدنيا فإن مقيمها ... كظا عنها ما أشبه اليوم بالأمس
1 / 10
الاستعداد لنزول الموت
قال الله تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ المَوُتُ قَالَ رَبِّ ارجِعُونِ. لَعَلّى أَعمَلُ صَلِحًا فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. فَإِذَا نُفِخَ فيِ الصَّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ.) إلى آخر السورة.
وعن أبي سعيد الخدري ﵁ أن النبي ﷺ غرز عودًا بين يديه وآخر إلى جبينه وآخر أبعد منه فقال: " أتدرون ما هذا؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم قال: " هذا الإنسان وهذا الأجل وهذا الأمل فيتعاطى الأمل فيلحقه الأجل دون الأمل ".
وروي عن ابن عباس ﵁ عن النبي ﷺ أنه قال لرجل وهو يعظه: " اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك " وكتب الإمام أبو حامد الغزالي إلى الشيخ أبي الفتح بن سلامة " قرع سمعي بأنك تلتمس مني كلامًا وجيزًا في معرض النصح والوعظ وإني لست أرى نفسي أهلا له فإن الوعظ زكاة نصابها الاتعاظ فمن لا نصاب له كيف يخرج الزكاة وفاقد النور كيف يستنير به غيره ومتى يستقيم الظل والعود أعوج ".
وقد أوصى الله تعالى عيسى بن مريم ﵉: يا ابن مريم عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس وإلا فاستحي مني، وقال نبينا ﷺ: " تركت فيكم ناطقًا وصامتًا " فالناطق هو القرآن والصامت هو الموت وفيهما كفاية لكل متعظ ومن لم يتعظ بهما كيف يعظ غيره، ولقد وعظت نفسي بهما وقبلت وصدقت قولًا وعملًا وأبت وتمردت تحقيقًا وفعلًا فقلت لنفسي أما أنت مصدقة
1 / 11
بان القرآن هو الواعظ الناطق وأنه كلام الله المنزل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فقالت: بلى فقلت لها قد قال الله تعالى: (مَن كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ للدُّنيَا وَزِنَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَالاَ يُبْخَسُونَ. أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَبْسَ لَهُمْ فيِ الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ.).
فقد وعد الله بالنار على إرادة الدنيا وكل ما لا يصحب بعد الموت فهو من الدنيا فهل تنزهت عن حب الدنيا وإرادتها ولو أن طبيبًا نصرانيًا وعدك بالموت أو بالمرض على تناول ألذ الشهوات لتحاميتها واتقيت وأنفت منها، أفكان النصراني عندك أصدق من الله تعالى فإن كان كذلك فما أكفرك أم كان المرض أشد عليك من النار فإن كان كذلك فما أجهلك فصدقت فما انتفعت بل أصرت على الميل إلى العاجلة واستمرت ثم أقبلت عليها فوعظتها بالواعظ فقلت لها قد اخبر الناطق عن الصامت.
قال الله تعالى: (قُلْ إِنَّ المَوْتَ الذَّي تَفِرُّونَ مِنْهُ مُلاَقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إلَى عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادةِ فَيُنَبِئُكُم بِما كُنتُم تَعمَلُونَ).
وقلت لها هبي أنك ملت إلى العاجلة أفلست مصدقة بأن الموت لا محالة يأتيك قاطعًا عليك ما أنت متمسكة به وسالبًا منك كل ما أنت راغبة فيه وأن كل ما هو آت قريب وأن البعيد ما ليس بآت.
وقد قال الله تعالى: (أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْناهُمْ سِنِينَ. ثُمَّ جَاءهُم مَّا كانُواْ يُوعَدُونَ. ما أَغْنَى عَنْهُم مَّا كانُوْا يُمَتَّعُوَن).
فكأنك مخرجة بهذا الوعظ عن جميع ما أنت فيه قالت صدقت فكان منها قولًا لا يحصل وراءه ولم تجتهد قط في تزود الآخرة كاجتهادها في تدبير العاجلة ولم تجتهد في رضى الله تعالى كاجتهادها في طلب رضاها وطلب
1 / 12
رضى الخلق ولم تستحي من الله تعالى كما تستحي من واحد من الخلق ولم تشمر لاستعداد الآخرة كتشميرها في الصيف لأجل الشتاء وفي الشتاء لأجل الصيف فإنها لا تطمئن في أوائل الشتاء ما لم تتفرغ عن جميع ما تحتاج إليه فيه مع إن الموت ربما يخطفها والشتاء لا يدركها والآخرة عندها يقين فلا يتصور أن تختطف منها، فقلت لها ألست تستعدين للصيف بمقدار طوله وتصنعين آلة الصيف بقدر صبرك على الحر قالت نعم قلت فاعصي الله بقدر صبرك على النار واستعدي للآخرة بقدر بقائك فيها فقالت هذا هو الواجب الذي لا يرخص في تركه إلا الحمق ثم استمرت على سجيتها ووجدتني كما قال بعض الحكماء في الناس من ينزجر نصفه ثم لا ينزجر نصفه الآخر وما أراني إلا منهم ولما رأيتها متمادية في الطغيان غير منتفعة بمواعظ الموت والقرآن رأيت أهم الأمور التفتيش عن سبب تماديها مع اعترافها وتصديقها فإن ذلك من العجائب العظيمة فطال تفتيشي عنه حتى وقفت على سببه وها أنا موص نفسي وإياك بالحذر منه هو الداء العظيم وهو السبب الداعي إلى الغرور والإهمال وهو اعتقاد تراخي الموت واستبعاد هجومه على القرب فإنه لو أخبر صادق في بياض نهاره أنه يموت في ليله أو يموت إلى أسبوع أو شهر لاستقام على الصراط المستقيم وترك جميع ما هو فيه مما يظن أنه يتعاطاه لله تعالى وهو فيه مغرور فضلًا عما ليس لله تعالى فانكشف لي تحقيقًا أن من أصبح وهو يؤمل أنه يمسي أو أمسى وهو يؤمل أنه يصبح لم يخل من الفتور والتسويف ولم يقدر إلا على سير ضعيف.
فأوصيك ونفسي بما أوصى به رسول الله ﷺ حيث قال: " صل صلاة مودع " ولقد أوتي جوامع الكلم وفصل الخطاب ولا ينتفع بوعظ إلا به ومن غلب على ظنه في كل صلاة أنها آخر صلاته حضر معه خوفه من الله تعالى وخشيته منه ومن لم يخطر بمخاطره قصر عمره وقرب أجله وغفل قلبه عن صلاته وسئمت نفسه فلا يزال في غفلة دائمة وفتور مستمر وتسويف متتابع إلى أن يدركه الموت ويهلكه حسرة الفوت وأنا مقترح عليه أن يسأل الله تعالى أن يرزقني هذه الرتبة فإني طالب لها وقاصر عنها وأوصيه أن لا يرضى من نفسه إلا
1 / 13
بها وأن يحذر مواقع الغرور فيها ويحترز من خداع النفس فإن خداعها لا يقف عليه إلا الأكياس وقليل ما هم والوصايا وإن كانت كثيرة والمذكورات وإن كانت كبيرة فوصية الله أكملها وأنفعها وأجمعها وقد قال الله ﷿ في محكم القرآن: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الكِتابَ مِن قَبْلِكُمْ وإيَّاكُمْ أَنِ اتَّقوُا الله).
فما أسعد من قبل وصية الله تعالى وعمل بها وادخرها لنفسه ليجدها يوم مردها ومنقلبها وقال يزيد الرقاشي كان في بني إسرائيل جبار من الجبابرة وكان في بعض الأيام جالسًا على سرير مملكته فرأى رجلا قد دخل من باب الدار ذا صورة منكرة وهيئة هائلة فاشتد خوفه من هجومه وهيئته وقدومه فوثب في وجهه وقال له: " من أنت أيها الرجل ومن أذن لك في الدخول إلى داري فقال أذن لي صاحب الدار وأنا الذي لا يحجبني حاجب ولا أحتاج في دخولي على الملوك إلى إذن ولا أرهب سياسة السلطان ولا يفزعني جبار ولا أحد من قبضتي فرار فلما سمع هذا الكلام خر على وجهه ووقعت الرعدة في جسده وقال: أنت ملك الموت قال: نعم قال أقسم عليك بالله إلا أمهلتني يومًا واحدًا لأتوب من ذنبي وأطلب العذر من ربي وأرد الأموال التي أودعتها خزائني إلى أربابها ولا أتحمل مشقة عذابها، فقال كيف أمهلك وأيام عمرك وأيام عمرك محسوبة وأوقاتها مثبتة مكتوبة فقال أمهلني ساعة، فقال إن الساعات في الحساب وقد عبرت وأنت غافل وانقضت وأنت ذاهل وقد استوفيت أنفاسك ولم يبق لك نفس واحد، فقال من يكون عندي إذا نقلتني إلى لحدي فقال لا يكون عندك سوى عملك فقال ما لي عمل؟ فقال لا جرم يكون مقيلك في النار ومصيرك إلى غضب الجبار " وقبض روحه، فخر عن سريره وعلا الضجيج من أهل مملكته وارتفع ولو عملوا ما يصير إليه من سخط ربه لكان بكاؤهم عليه أكثر وعويلهم أوفر.
1 / 14
ذم طول الأمل
قال الله تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوَاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله وَمَا نَزَلَ مِنَ اْلحَقِّ وَلاَ يَكُونُواْ كَالَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ.).
وعن أبي بن كعب ﵁ قال: كان رسول الله ﷺ إذا ذهب ثلث الليل قام فقال: " يا أيها الناس اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه "، وعن ابن عباس ﵄ أن رسول الله ﷺ: كان يهريق الماء فيتيمم بالتراب فأقول يا رسول الله إن الماء منك قريب فيقول " ما يدريني لعلي لا أبلغه "، وعن أنس قال النبي ﷺ: " يهرم ابن آدم ويشب فيه اثنتان الحرص على المال والحرص على العمر " وقال رسول الله ﷺ: " مثل ابن آدم إلى جنبه تسع وتسعون منية إن أخطأته المنايا وقع في الهرم ". وروي أن الحسن قيل له أن فلانًا مات بغتة فقال ما يعجبكم من ذلك لو لم يمت بغتة مرض بغتة ثم مات. قال الغزالي رحمة الله عليه " عليك أن تجتنب طول أملك فإنه إذا طال هاج أربعة أشياء: الأول ترك الطاعة والكسل فيها يقول سوف أفعل والأيام بين يدي. والثاني ترك التوبة وتسويفها يقول سوف أتوب وفي الأيام سعة وأنا شاب وسني قليل والتوبة بين يدي وأنا قادر عليها متى رمتها وربما اغتاله الحمام على الإصرار واختطف الأجل صلاح العمل. والثالث الحرص على جمع الأموال والاشتغال بالدنيا عن الآخرة يقول أخاف الفقر في الكبر وربما أضعف عن الاكتساب ولا بد لي من شيء فاضل أدخره لمرض أو هرم أو فقر هذا ونحوه يحرك إلى الرغبة في الدنيا والحرص عليها والاهتمام للرزق تقول إيش آكل وإيش ألبس هذا الشتاء وهذا الصيف ومالي شيء، ولعل العمر يطول فأحتاج والحاجة مع الشيب شديدة ولا بد لي من قوت وغنية عن الناس وهذه
1 / 15
وأمثالها تحرك إلى طلب الدنيا والرغبة فيها والجمع لها والمنع لما عندك منها. والرابع القسوة في القلب والنسيان للآخرة لأنك إذا أملت العيش الطويل لا تذكر الموت والقبر ".
وعن علي بن أبي طالب ﵁ " أخوف ما أخاف عليكم اثنان: طول الأمل واتباع الهوى ألا إن طول الأمل ينسي الآخرة واتباع الهوى يصدك عن الحق فإذن يصير فكرك في حديث الدنيا وأسباب العيش في صحبة الخلق نحوها فيقسو القلب فبسبب طول الأمل تقل الطاعة وتتأخر التوبة وتكثر المعصية ويشتد الحرص ويقسو القلب وتعظم الغفلة فتذهب والعياذ بالله إن لم يرحم الله فأي حال أسوأ من هذه وأي آفة أعظم من هذه، وإنما رقة القلب وصفوته بذكر الموت ومفاجأته والقبر والثواب والعقاب وأحوال الآخرة ".
ويروى إن ذا القرنين اجتاز بقوم لا يملكون شيئًا من أسباب الدنيا وقد حفروا قبور موتاهم على باب دورهم وهم في كل وقت يتعهدون تلك القبور وينظفونها ويزورونها ويتعبدون الله تعالى بينها وما لهم طعام إلا الحشيش ونبات الأرض، فبعث إليهم ذو القرنين رجلًا يستدعي ملكهم فلم يجبه، وقال ما لي إليه حاجة فجاء ذو القرنين إليه وقال كيف حالكم فأني لا أرى شيئًا من ذهب ولا فضة ولا أرى عندكم شيئًا من نعم الدنيا فقال نعم لأن الدنيا لا يشبع منها أحد قط فقال لم حفرتم القبور على أبوابكم فقال لتكون نصب أعيننا فالنظر إليها يتجدد ذكر الموت ويبرد حب الدنيا في قلوبنا فلا نشتغل بها عن عبادة ربنا فقال كيف تأكلون الحشيش فقال لأنا نكره أن نجعل بطوننا مقابر للحيوان ولأن لذة الطعام لا تتجاوز الحلق، ثم مد يده فأخرج منها قحف رأس آدمي فوضعه بين يديه وقال يا ذا القرنين تعلم من كان هذا، فقال: لا، قال: كان صاحب هذا القحف ملكًا من ملوك الدنيا وكان يظلم رعيته ويجور على الضعفاء ويستفرغ زمانه في جمع الدنيا فقبض الله روحه وجعل النار مقره وهذا رأسه ثم مد يده ووضع قحفًا آخر بين يديه وقال له أتعرف هذا فقال لا فقال كان هذا ملكًا عادلًا مشفقًا على رعيته محبًا لأهل مملكته فقبض الله روحه وأسكنه جنته ورفع درجته، ثم وضع يده على رأس ذي القرنين وقال
1 / 16
ترى أي هذين الرأسين يكون هذا الرأس فبكى ذو القرنين بكاء شديدًا وضمه إلى صدره وقال له إن رغبت في صحبتي فإنني أسلِّم إليك وزارتي وأقاسمك مملكتي فقال هيهات ما ليفي ذلك رغبة فقال لم قال لأن جميع الخلق كلهم أعداؤك بسبب المال والمملكة وجميعهم أصدقائي بسبب القناعة والصعلكة ولله در القائل:
دليلك أن الفقر خير من الغنى ... وإن قليل المال خير من المثرى
لقاؤك عبدًا قد عصى الله بالغنى ... ولم تلق عبدًا قد عصى الله بالفقر
1 / 17
قصر الأمل
اعلم أن تقصير الأمل مع حب الدنيا متعذر وانتظار الموت مع الاكباب عليها غير متيسر إذا كان مملوءًا بشيء لا يكون لشيء آخر محل فيه ولأن الدنيا والآخرة كضرتين إذا أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى وكالمشرق والمغرب بقدر ما من أحدهما تبعد من الآخر.
قال الله تعالى: (مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا).
وقال الله تعالى: (فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِالله آلْغَروُرُ).
وقال رسول الله ﷺ: " إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعلمون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل النساء ". وقال النبي ﷺ: " ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه "، وعن أبي سعيد الخدري ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: " إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها " فقال رجل يا رسول الله أو يأتي الخير بالشر فسكت النبيُّ حتى ظننا أنه ينزل عليه فقال فمسح عنه الرحضاء وقال " أين السائل " وكأنه حمده، وقال " إنه لا يأتي الخير بالشر وأن مما ينبت الربيع يقتل أو يلم إلا أكلة الخضر أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ثم عادت فأكلت وإن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة، ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع ويكون شهيدًا عليه يوم القيامة " ويعني مثال كثرة المال كمثال ما
1 / 18
ينبت في فصل الربيع فإن بعض النبات حلوة في فم الدابة وهي حريصة على أكله لكن ربما تأكل كثيرًا فيحصل بها داء من كثرة الأكل فتموت من ذلك الداء أو تقرب، فإن لم تأكل الدابة إلا بقدر ما يطيقه كرشها فتأكل وتترك الأكل حتى ينهضم ما أكلت وحتى تبول وتروث روثًا وتحصل لها خفة من خروج الروث والبول منها فلا يضرها الأكل فكذلك من يحصل له مال كثير فإن الحص على المال وتكثير الأكل والشرب والتجمل فيقسو قلبه وتتكبر نفسه ويرى نفسه أفضل من غيره ويحتقر الناس ويؤذيهم ولا يخرج حقوق المال من الزكاة وأداء الكفارات والنذور وإطعام السائلين والأضياف وحقوق الجار فمن كانت هذه صفته لا شك أن المال شر له ويبعده عن الجنة ويقربه من النار ومن أدى حقوق المال ولا يحتقر الناس ولا يفتخر عليهم ولا يشتغل بجمع المال بحيث يفوت عنه طاعة ويحسن إلى الناس فماله خير له كما قال ﵇: " نعم المال الصالح للرجل الصالح " فإذا عرفت هذا فقد عرفت أن الخير والشر لا يحصل للرجل من المال بل نفس الرجل التي هي تصرف المال فيما فيه خير له أو شر له، قاله المظهري وقال ﷺ: " لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال " وقال ﷺ: " إن الله تعالى يقول: ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك وإن لم تفعل ملأت يدك شغلًا ولم أسد فقرك ". وحكي أن رابعة العدوية ﵂ كانت تقول " لكل يوم ليلة وهذه ليلتي أموت فيها فلا تنام حتى تصبح وتقول للنهار كذا فلا تنام حتى تمسي. وقال أبو بكر بن عياش: ختمت القرآن في هذه الزاوية ثمانية عشر ألف ختمة، وصام ابن المعتمر أربعين سنة وقام ليلها، ولم يضع سليمان التيمي جنبه عشرين سنة. وصلى عبد القادر الجيلاني رحمة الله عليه الصبح بوضوء العشاء أربعين سنة، ولزم الغزالي الأنقطاع ووظائف أوقاته على وظائف الخير بحيث لا يمضي لحظة منها إلا في طاعة من التلاوة والتدريس والنظر في الأحاديث خصوصًا البخاري، وإدامة الصيام والتهجد ومجالسة أهل القلوب إلى
1 / 19
أن أنتقل إلى رحمة الله تعالى، ولم يضع النووي ﵀ جنبه على الأرض نحو سنتين وكان لا يضيع له وقتًا في ليل ولا نهار إلا في وظيفة من الأشتغال بالعلم حتى في ذهابه في الطريق ومجيئه يشتغل في التكرار والمطالعة.
وحكاياتهم في المبادرة الى الخيرات كثيرة يكفي من وفقه الله ما ذكرنا وكل ذلك من نتيجة قصر الأمل.
اعلم أن مما يعينك على ذكر الموت أن تذكر من مضى من أقاربك وإخوتك وأصحابك وأترابك الذين مضوا قبلك كانوا يحرصون حرصك، ويسعون سعيك ويعملون في الدنيا عملك فقصفت المنون أعناقهم، وقلعت أعراقهم وقصمت أصلابهم، وفجعت فيهم أحبابهم فأفردوا في قبورهم موحشة وصاروا جيفًا مدهشة والأحداق سالت والألوان حالت والفصاحة زالت والرؤوس تغيرت ومالت مع فتان يقعدهم ويسألهم عما كانوا يعتقدون، ثم يكشف لهم من الجنة والنار مقعدهم إلى يوم يبعثون، فيرون أرضًا مبدلة وسماء مشققة وشمسًا مكورة ونجومًا منكدرة وملائكة منزلة وأهوالًا مذعرة وصحفًا منتشرة ونارًا زفرة وجنة مزخرفة فعد نفسك منهم ولا تغفل عن زاد معادك ولا تهمل نفسك سدى كالبهائم ترتع ولا تدري (ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ).
(إِذِ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ. فِي الْحَمِيِم ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ)
يا باني القصر الكبير ... بين الدساكر والقصور
ومجرد الجيشَ الذي ... ملأ البسيطة والصدور
ومدوخ الأرض التي ... أعيت على مر الدهور
أما فرغت فلا تدع ... بنيان قبرك في القبور
1 / 20
وانظر إليه تراه كي ... ف إليك معترضًا يشير
واذكر رقادك وسطه ... تحت الجنادل والصخور
قد بددت تلك الجيو ... ش وغيرت تلك الأمور
واعتضت من بين الحري ... ر خشونة الحجرالكبير
وتركت مرتهنًا به ... لا مال ويلك ولا عشير
حيران تعلن بالأسى ... لهفان تدعو بالثبور
ودعيت باسمك بعدما ... قد كنت تدعى بالأمير
1 / 21
سكرات الموت
قال الله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ).
وقال تعالى: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ).
روي البخاري في صحيحه أن عائشة ﵂ قالت: " إن رسول الله ﷺ كان بين يديه علبة فيها ماء فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه ويقول لا إله إلا الله إن للموت لسكرات ثم نصب يديه فجعل يقول إلى الرفيق الأعلى حتى قبض " وفي صحيحه: " لما ثقل ﷺ جعل يتغشاه الكرب فجعلت فاطمة ﵂ تقول واكرب أبتاه فقال ﷺ لا كرب على أبيك بعد اليوم " ويروى أن النبي ﷺ دخل على مريض فقال " إني لأعلم ما يلقى ما فيه عرق إلا وهو يألم بالموت على حدته ". ويروى عن مكحول عن النبي ﷺ أنه قال " لو أن شعرة من شعرات الميت وقعت على أهل السماوات والأرض لماتوا بأذن الله تعالى " وقال عمر بن الخطاب ﵁ يا كعب حدثنا عن الموت فقال نعم يا أمير المؤمنين " هو كغصن كثير الشوك أدخل في جوف رجل فأخذت كل شوكة بعرق ثم جذبه رجل شديد الجذب فأخذ ما أخذ وأبقى ما أبقى " وكان علي ﵁ يحض على القتال في سبيل الله ويقول " إن لم تقتلوا تموتوا والذي نفس محمد بيده لألف ضربة بالسيف أهون من موت على فراش ". وقال شداد بن أوس: الموت أفظع هول في الدنيا والآخرة على المؤمن وهو أشد من نشر بالمنشير وقرض بالمقاريض وغلي في القدور ولو أن الميت نشر فأخبر أهل الدنيا بألم الموت ما انتفعوا بعيش ولا التذوا بنوم، ويروى أن إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه لما مات قال الله ﷿ له " كيف وجدت الموت " قال كسفود جعل في صوف رطب ثم جذب فقال: "
1 / 22
أما إنا قد هونا عليك ". وعن موسى صلوات الله عليه أنه لما صارت روحهإلى الله ﷿ قال له " يا موسى كيف وجدت الموت " قال: وجدت نفسي كشاة حية بيد القصاب تسلخ.
وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن جابر ﵁ عن النبي ﷺ قال: " تحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج فإنهم كانت فيهم أعاجيب " ثم أنشأ يحدث قال " خرجت طائفة فأتوا مقبرة من مقابرهم فقالوا لو صلينا ركعتين ودعونا الله يخرج لنا بعض الأموات يخبرنا عن الموت، قال: ففعلوا فبينما هم كذلك إذ أطلع رجل رأسه من قبر تلاشى بين عينيه أثر السجود فقال: يا هؤلاء ما أردتم إلي فوالله لقد مت منذ مائة سنة فما سكنت عني حرارة الموت حتى الآن فادعوا الله أن يعيدني كما كنتُ وكأن عمرو بن العاص ﵁ يقول لوددت لو أني رأيت رجلًا لبيبًا حازمًا قد نزل به الموت فيخبرني عن الموت فلما أنزل به الموت قيل له يا أبا عبد الله كنت تقول أيام حياتك لوددت أني رأيت رجلًا لبيبًا حازمًا قد نزل به الموت يخبرني عن الموت وأنت ذلك الرجل اللبيب الحازم وقد نزل بك الموت فأخبرنا عنه. فقال: أجد كأن السماوات انطبقن على الأرض وأنا بينهما وكأن نفسي تخرج على ثقب إبرة ".
ويروى أن إبراهيم الخليل قال لملك الموت هل تستطيع أن تريني الصورة التي تقبض فيها روح الفاجر؟ قال أتطيق ذلك؟ قال بلى فأعرض ثم التفت فإذا هو رجل أسود الثياب قاتم الشعر منتن الريح يخرج من فيه ومناخره لهب النار والدخان فغشى على إبراهيم ثم أفاق وقد عاد ملك الموت إلى صورته الأولى فقال يا ملك الموت لو لم يلق الفاجر إلا صورة وجهك لكان ذلك حسبه.
وروى عن أسلم مولى عمر بن الخطاب ﵄ قال: إذا بقي على
1 / 23
المؤمن من ذنوبه شيء لم يبلغه عمله شدد عليه الموت ليبلغ بسكرات الموت وشدته درجته في الجنة وإن الكافر إذا كان عمله معروفًا في الدنيا هون عليه الموت ليستكمل ثواب معروفه في الدنيا ثم يصير إلى النار.
وروي البخاري أن عمر بن الخطاب ﵁ قال: " لو أن لي طلاع الأرض ذهبًا لافتديت به من قبل أن أراه ". وقيل لم يلق ابن آدم أشد من الموت وما بعده أشد منه.
وفي الوسيط للواحدي بإسناده عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ: " الأمراض والأوجاع كلها بريد الموت ورسل الموت فإذا حان الأجل أتى ملك الموت بنفسه وقال أيها العبد كم خبر بعد وكم رسول بعد رسول وكم بريد بعد بريد أنا الخبر ليس بعدي خبر وأنا الرسول ليس بعدي رسول أجب ربك طائعًا أو مكروهًا فإذا قبض روحه وتصارخوا عليه قال على من تصرخون وعلى من تبكون؟ فوالله ما ظلمت له أجلًا ولا أكلت له رزقًا بل دعاه ربه فليبك الباكي على نفسه فإن لي فيكم عودات وعودات حتى لا أبقي منكم أحدًا ". وعن أنس بن مالك قال: " لقي جبريل ملك الموت بنهر فارس فقال يا ملك الموت كيف تستطيع قبض الأنفس عند الوباء هاهنا عشرة آلاف وهاهنا كذا وكذا؟ فقال ملك الموت تزوى لي الأرض حتى كأنهم بين فخذي فألتقطهم بيدي ".
اعلم لو أنا انتظرنا ضربة شرطي لتكدر عيشنا وفي نفس يمكن مجيء الموت بشدائده وهو أمر من ضرب بالسيوف ونشر بالمناشير ويود لو قدر على صياح وأنين ويجذب روحه من كل عضد وعرق فتبرد قدماه، ثم فخذاه وهكذا حتى يبلغ الحلقوم فعنده ينقطع نظره إلى دنياه ويغلق عنه باب توبته فقد قال رسول الله ﷺ: " إن الله تعالى يقبل توبة عبده ما لم يغرغر ".
يا فرقة الأحباب لا بد لي منك ... ويا دار دنيا إنني راحل عنك
1 / 24
ويا قصر الأيام مالي وللمنى ... ويا سكرات الموت مالي وللضحك
فما لي لا أبكي لنفسي بعبرة ... إذا كنت لا أبكي لنفسي فمن يبكي
ألا أي حي ليس بالموت موقنًا ... وأي يقين أشبه اليوم بالشك
1 / 25
عذاب القبر للكفار وبعض عصاة المؤمنين
قال الله ﷾: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُوْمُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوَاْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ).
وفي كتاب الترمذي كان عثمان بن عفان ﵁ إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته فقيل له تذكر الجنة والنار ولا تبكي وتبكي من هذا؟ فقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: القبر أول منزل من منازل الآخرة فأن نجا منه صاحبه فما بعده أيسر منه وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه ". وسمعت رسول الله ﷺ يقول: " ما رأيت منظرًا قط إلا والقبر أفظع منه ". وفي كتاب أبي داود والنسائي عن البراء بن عازب عن رسول الله ﷺ قال: يأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك فيقول ربي الله فيقولان له ما دينك فيقول ديني الإسلام فيقولان له ما هذا الرجل الذي بعث فيكم فيقول هو رسول الله ﷺ فيقولان وما يدريك فيقول قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت فذلك قوله تعالى: (يُثَبِّتُ الله الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ).
قال فينادي مناد من السماء أن صدق عندي فافرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له بابًا إلى الجنة فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له فيها مد بصره.
وأما الكافر فذكر موته قال ويعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان من ربك فيقول هاه هاه لا أدري فيقولان ما دينك؟ فيقول هاه هاه لا أدري فيقولان ما هذا الرجل الذي بعث فيكم فيقول هاه هاه لا أدري فينادي مناد من السماء أن كذب فافرشوه من النار وألبسوه من النار وافتحوا له بابًا إلى النار قال فيأتيه من حرها وسمومها قال ويضيق عليه قبره حتى تختلف عليه
1 / 26