وما زال الثلاثة سائرين وهم يتبادلون الأحاديث حتى وصلوا إلى باب توما، فخرج بهما سليمان إلى ما هنالك من غياض وبساتين، وداروا حولها حتى نهر بردى، فما كادوا يشرفون عليه حتى شاهدوا أهل القرى في تلك المنطقة يعدون متصايحين وهم يسوقون أمامهم ماشيتهم ووجهتهم المدينة، وسمعوا بعضهم يقولون: «جاء المماليك ... جاء المماليك.»
فعلم السيد عبد الرحمن أن جيش أبي الذهب وصل إلى حدود المدينة، ولم يسعه إلا الرجوع هو وخادمه مع صديقهما الدمشقي إلى المدينة؛ حيث أغلقت أبوابها بعد قليل، وخرج جنود حاميتها إلى الأماكن المعدة للدفاع فوق الأسوار، وفي الأبراج والحصون، وتحصن كثيرون في القلعة، ولجأ الأهلون إلى المنازل خائفين مترقبين.
وباتت دمشق تلك الليلة ساهرة تتقلب على أحر من الجمر، وما أصبح الصباح حتى دوت المدافع، وتسامع الناس بأن المدينة توشك أن تسقط في أيدي الغزاة الفاتحين؛ فقد جاءوها بجنود لا قبل لها بهم، مزودين بأقوى الأسلحة المعروفة في ذلك الحين، وانضم إلى الحملة المصرية جنود كثيرون من المتاولة والزيادنة والصفديين بقيادة أولاد الشيخ ضاهر.
ولم تمض بضعة أيام حتى دخل الفاتحون المدينة وانتشروا في أنحائها للنهب والسلب، وكانت قلعتها ما زالت صامدة للحصار، ولكنها ما لبثت أن سلمت هي الأخرى بعد قليل. •••
لجأ السيد عبد الرحمن وخادمه إلى إحدى الحجرات في الفندق الذي نزلا به، وهما بملابس المغاربة. فلما مضت ساعات بعد فتح المدينة، وخفت حدة النهب الذي قام به الجنود والفاتحون، قال علي لسيده: «ألا تأذن لي في الخروج لتفقد الحالة خارج الفندق، عسى أن نجد فرصة مواتية لمغادرة هذه المدينة؛ حتى لا نقع في يد أبي الذهب؟»
فقال السيد عبد الرحمن: «لا أرى أن تخرج الآن، فالجنود ما زالوا يملئون الطرقات، وقد يصيبك شيء من شرهم وطغيانهم، كما أني لا أستطيع أن أغادر دمشق إلا بعد أن أجد حسنا فيها أو أتحقق أنه ليس هنا.»
وبعد ساعة أخرى، لم يطق علي صبرا على الانتظار في مخبئهما، فنهض وأتم ارتداء ملابسه المغربية وحمل الجراب على كتفه؛ تأهبا للخروج وهو يقول: «ما أظن الجنود يطمعون في أسلاب مغربي في مثل هيئتي هذه.» ثم خرج من الفندق على أن يستكشف الحالة ويعود بعد قليل.
وما كاد أن يصل إلى الشارع حتى وجد أكثر المتاجر قد حطمت أبوابها ونهب الجنود ما كان فيها، كما وجد أن سكان المنازل ما زالوا في قلق وخوف واضطراب، فحدثته نفسه بالرجوع، لكنه خجل من أن يكون جبانا إلى هذا الحد، وواصل السير حتى بلغ منعطفا إلى يمينه في ذلك الطريق، فوقف مترددا بين الدخول في هذا المنعطف وبين المضي في الطريق الذي هو فيه.
وفيما هو كذلك سمع صوت رجل يدعوه باسمه، فأجفل وخفق قلبه بشدة؛ مخافة أن يكون مناديه جنديا من جنود المماليك، ثم زايله بعض خوفه؛ إذ تذكر أنه متنكر في زي مغربي فلا يمكن أن يعرفه لأول وهلة أي أحد من عارفيه.
وقبل أن يلتفت ليرى من ناداه، كان هذا قد وصل إليه وألقى عليه التحية، فإذا به سليمان الدمشقي الذي تعرف إليه هو وسيده في المقهى يوم مجيء الحملة، فرد تحيته بمثلها معربا عن سروره بلقائه.
Halaman tidak diketahui