فعجب عماد الدين وقال: «وكيف تستطيع ذلك والبحر ما زال هائجا كما ترى!»
قال: «إن أمواج البحر تعرفني وتعرف قاربي، فلست أخافها مهما تكن غاضبة ثائرة، ولكني لا أذهب في هذه المهمة إلا إذا نقدتني عليها كيسا كاملا (خمسمائة قرش)!»
فضحك عماد الدين وقال: «كيس كامل؟ هل حسبت أنني علي بك نفسه حتى أستطيع دفع هذا الأجر؟!» قال هذا وغادر الميناء عائدا إلى الفندق مؤثرا الانتظار حتى اليوم التالي، ودخل الغرفة التي ترك حسنا فيها فلم يجده هناك، وعلم أنه خرج منذ قليل، فقال في نفسه: «لعله استبطأ عودتي فخرج ليروح عن نفسه عناء الانتظار بالتنزه على شاطئ البحر.» ولبث ينتظره في الفندق حتى حان موعد الغداء دون أن يرجع، فأوجس خيفة عليه؛ لعلمه بحكايته وبأنه لا يعرف أحدا في المدينة، وخرج يبحث عنه هنا وهناك، فلما لم يجده بعد ساعات من البحث، عاد إلى الفندق لعله سبقه إليه من طريق آخر، فعلم أنه لم يأت إليه بعد، وخاطب في شأنه صاحب الفندق فقال له هذا: «لا خوف عليه إلا أن يكون قد سار إلى جهة قلعة رأس التين؛ لأن فيها بعض الجنود المماليك والإنكشارية وهم لا يتورعون عن إنزال الأذى بأي إنسان، بل لا يتورعون عن القتل إذا كان لهم من ورائه نفع بسيط!» •••
انتظر عماد الدين في الفندق على نار حتى صباح اليوم التالي، ثم خرج من الفندق قاصدا إلى الجمارك لمقابلة مديرها وطلب مساعدته في البحث عن حسن. وكان صاحب الفندق هو الذي أشار عليه بذلك؛ لأن مدير الجمارك يومئذ شامي مثله واسمه أنطون فرعون، ولا يقل نفوذه عن نفوذ أعظم الأمراء، ولاسيما أنه - فضلا عن كبر منصبه - ذو ثروة طائلة، وقصره الفخم الجميل على الشاطئ لا يخلو من الحفلات التي يدعو إليها الكبراء من الأجانب والوطنيين.
فلما وصل إلى إدارة الجمارك، علم أن المدير لم يحضر بعد، فوقف ينتظر قدومه هناك، وبعد ساعة رأى موظفي الإدارة وعمالها في هرج ومرج، ثم اصطف أكثرهم عند مدخلها ووقفوا متأدبين، فعلم أن المدير قادم، وانتظم في جملة المستقبلين. وما لبث المدير أن أقبل في زي فخم تحفه الهيبة والأبهة والوقار، فهم كبار الموظفين بتقبيل يده، ففعل عماد الدين مثلهم، ثم تبعه حتى بلغ حجرته الخاصة وهم بدخولها، فناداه عماد الدين بلهجته الشامية قائلا: «سيدي المدير.» فالتفت إليه وسأله «ما حاجتك؟» فقال: «أرجو أن يتنازل السيد بدقيقة أروي له فيها ما دفعني إلى المجيء هنا.»
فأشار إليه بأن يتبعه إلى الحجرة، وإذن له في الجلوس وطلب له قهوة، ثم لم يكد يسمع حكايته عن فقد زميله وخوفه أن يكون الإنكشارية قد نالوه بسوء، حتى طمأنه وقال له: «هذه مسألة بسيطة، وسأرسل الآن نائبي إلى قلعة رأس التين، فإذا كان الجنود الذين فيها قد اعتقلوا صاحبك طمعا في ماله أو في أن يفتديه أهله بالمال، أخرجه النائب من السجن وجاءنا به معززا مكرما.»
فوقف عماد الدين وقبل يد المدير قائلا: «جزاك الله أحسن الجزاء، وهكذا المروءة والشهامة.»
فقال: «هذا أقل ما يجب.» ثم صفق، فلما جاء الحاجب أمره بأن يبلغ النائب أمره بالذهاب إلى قلعة رأس التين، والسؤال عن شاب اسمه حسن يظن أن الجنود اعتقلوه هناك، فإذا وجده أبلغ الأغا رئيس الجنود أنه من أتباعه، وجاء به.
فحنى الحاجب رأسه سمعا وطاعة وانصرف. والتفت المدير إلى عماد الدين وسأله: «كيف حال الشام الآن؟ وهل الشيخ ضاهر الزيداني ما زال حاكما في عكا؟»
قال: «نعم يا سيدي، وهو الآن بسبيل الاستيلاء على بلاد الشام كلها؟»
Halaman tidak diketahui