فسكت حسن حائرا، وخاف أن يكشف حقيقة أمره فيقع في مصيبة أخرى، وزاد هذا في شوق عماد الدين إلى استطلاع الأمر، فقال له: «إنني صرت لك أخا بل خادما منذ أنقذت حياتي، ولا شك أن ما يهمني يهمك، ولعلي أوفق إلى القيام لك بخدمة.»
ولم يجد حسن بدا من النزول على رغبة الجريح الصديق، فتنهد وقال له: «إن حكايتي يبكي لها الصخر الأصم!» ثم رواها له من أولها إلى آخرها.
فتأثر عماد الدين كل التأثر وقال له: «حقا، إن حكايتك تدعو إلى الأسى والأسف، ولكن لا حيلة فيما وقع، اللهم إلا الصبر. فاصبر وكن على يقين من أن الله سيثيبك على صبرك، ولك علي عهد الله وميثاقه لأكونن في خدمتك ما حييت.»
فشكره حسن، وتفقد جروحه فوجد ألا خطر منها، كما علم منه أنه ارتاح قليلا من الآلام التي كان يشعر بها في ساقه، فحمد الله على ذلك، وبشره بعاجل الشفاء. وما زال يسامره بالأحاديث والأماني حتى لاح لهما جمل قادم من بعيد، وفوقه راكب بملابس الأعراب، فاستعاذ عماد الدين بالله من أن يكون القادم لصا قاطع طريق، وبدا عليه الاضطراب، فابتسم حسن في وجهه مطمئنا وقال له: «إن الذي نجانا فيما مضى قادر على أن ينجينا فيما هو آت.» ثم نهض وصعد إلى الأكمة التي كان جالسا عليها بالأمس، ثم خلع ثوبه وأخذ يلوح به في الهواء ليراه الجمال القادم.
وبعد قليل كان الجمال قد رأى الثوب الملوح به، فحول عنان جمله إلى جهته وما زال يحثه حتى وصل إليهما، فترجل وسلم ثم سألهما: «ما خطبكما أيها الصديقان؟»
فاطمأن كل منهما لحسن لهجته وأدبه، وقال له حسن: «إننا من القاهرة، وكنا في عكا نحمل إلى حاكمها رسالة من علي بك حاكم مصر، وفي عودتنا من عكا قطع علينا الطريق هنا بعض لصوص البدو، واعتدوا على أخي هذا وجرحوه. فإذا تفضلت بنقله على جملك إلى أقرب قرية من هنا، كنا لك من الشاكرين.»
فقال الأعرابي: «إني رهن أمركما، ومنزلي غير بعيد من هنا، فأنا أحق بشرف الضيافة.» ثم اقترب من عماد الدين وتأمل الضماد على رأسه والجبيرة على ساقه، وقال متعجبا: «إن مثل هذه الإسعافات لا يحذقها إلا طبيب.»
فاحمر وجه حسن خجلا، وبادر عماد الدين إلى الإجابة قائلا: «من فضل الله ونعمته أن أخي درس الطب في البيمارستان المنصوري على يد طبيب مغربي كبير.»
فالتفت الأعرابي إلى حسن وهش في وجهه وقال: «الحمد لله. نحن إذن أهل وإخوان، فإن جدي - رحمه الله - كان طبيبا ومغربيا أيضا.» ثم أناخ الجمل وتعاون مع حسن على حمل عماد الدين إلى متنه وشداه إلى الرحل مستلقيا على ظهره، ثم عاد ثلاثتهم إلى قرية الأعرابي، فبلغوها بعد ساعات، ونزل حسن وعماد الدين بمنزل الرجل ضيفين مكرمين إلى أن التأم جرح عماد الدين، والتأمت عظمة ساقه المكسورة، أو كادت بفضل العلاج الذي قام حسن به، فاستأذنه عماد الدين في أن يركب هجينا يذهب عليها إلى القاهرة فيؤدي الرسالة إلى علي بك، ثم يعود إليه بعد ستة أيام على الأكثر. فاستحسن الفكرة، وودعه والأعرابي مضيفهما، سائلين له السلامة في الذهاب والإياب.
أمضى حسن الأيام الستة الأولى بعد ذهاب عماد الدين إلى القاهرة، يغالب الهواجس وتغالبه، فلما كان اليوم السابع أخذ ينتظر عودته منذ طلعت الشمس حتى غروبها، فلما لم يعد في موعده، قلق وتعاظمت هواجسه وظنونه ومخاوفه، وعبثا حاول مضيفهما الأعرابي تخفيف قلقه، فلم يتناول في العشاء إلا لقيمات رغم أنه لم يتناول أي طعام طول النهار، ثم جفا النوم عينيه طول ليلته. فلما أصبح تجدد أمله في عودة عماد الدين، وبقي ينتظره عند مدخل القرية نهاره كله وجانبا من الليل، لكنه لم يأت أيضا، فيئس حسن وخاف أن يكون صاحبه قد وقع مرة أخر في أيدي قاطعي الطريق فأعدموه، وقرر أن ينهض عند الفجر فيمضي إلى القاهرة متنكرا ليقتفي أثر عماد الدين ويقف على جلية أمره، وأفضى بما اعتزمه إلى صاحب المنزل، فوافقه وأعد هجينا خفيفة ليستقلها، وجلس معه بعد العشاء ليسامره كعادته ثم يودعه.
Halaman tidak diketahui