ولم يمض إلا قليل، ثم إذا بالسيد المحروقي يرسل في طلبه من تلقاء نفسه، وذلك أن بعض الفقهاء الذين جاءوا معه حدثوه حين رأوا الشيخ المجذوب في الجامع بما عرفوا من كراماته وأحواله، فرغب في استطلاع أمره بنفسه.
فنهض السيد عبد الرحمن، ومضى إلى حيث كان السيد المحروقي جالسا بين أولئك العلماء والأشراف يتشاورون فيما ينبغي اتخاذه لوقف المماليك عن ظلمهم. ولما وصل إلى هناك وقف قريبا من مجلسهم بحيث يرونه، فدعوه إلى المجيء إليهم، ولكنه هز رأسه إشارة الرفض، ثم أشار بيده إلى السيد المحروقي ليخاطبه على حدة، فنهض هذا من المجلس، وانتحى به ناحية، وأصغى لما سيقوله فإذا به يقول: «إني لست بشيخ مجذوب، ولا شيء لي بالانجذاب، وإنما أنا صديقك القديم عبد الرحمن التاجر السابق في وكالة الليمون، وقد تنكرت في هذا الزي خوف الظلم والعدوان.»
ثم روى له حكايته باختصار والدموع تنهمل من عينيه، فبكى السيد المحروقي تأثرا، ثم قال: «لا تيأس يا صديقي، فقد علمت أن ولدك لم يقتل، وأن الله قيض له الست نفيسة زوجة علي بك فأنقذته من المصير الرهيب الذي حكم به عليه زوجها، وعاونته على الفرار إلى سوريا أو غيرها من البلاد المجاورة، أما والدته فعلمت أن علي بك أمر بإغراقها في النيل، ولكنني علمت أيضا أن الست نفيسة زوجته كانت قد أرسلت في طلبها قبل ذلك وأحسنت استقبالها ومواساتها، ولعلها أن تكون قد عملت على إنقاذها أيضا.»
فتجدد الأمل في صدر عبد الرحمن، وشكر صديقه السيد المحروقي على هذه المعلومات، ثم حياه وانصرف عائدا إلى خادمه علي فزف إليه تلك البشرى، وقررا السفر إلى سوريا في أقرب وقت للبحث عن حسن هناك.
الفصل الثامن
رسول من عكا
تركنا حسنا وقد أخذه بعض الجنود المماليك من حرس علي بك، على مشهد من أمه في القلعة، ليمضوا به إلى النيل ويغرقوه فيه، تنفيذا لأمر مولاهم.
فلما وصلوا به إلى مصر العتيقة، استولوا على قارب وجدوه راسيا على الشاطئ هناك قرب الميناء، وأنزلوه فيه وهو يبكي ويتوسل إليهم دون جدوى، ومعه كيس كبير من الخيش وحجر ثقيل أرغموه على حمله في الطريق، لكي يضعوه معه في الكيس حتى لا يطفو بعد قذفه في الماء.
وفيما هم يهمون بحل القارب، لاحت منهم التفاتة إلى إحدى السفن الراسية في الميناء، فوجدوا العمال ينزلون منها براميل أدركوا من هيئتها أنها ملأى بالنبيذ أو الزبيب، وزيف لهم الشيطان أن يستولوا على شيء مما فيها ليحتسوه في القارب احتفالا بتنفيذ أمر علي بك. ومضى أحدهم لإنجاز هذه المهمة، فلما عاد بعد قليل إلى القارب وجد فيه مع زملائه مملوكا من الحرس الخاص بقصر علي بك، فظن أنهم رأوه اتفاقا هناك، فدعوه إلى مشاركتهم النزهة والشراب. ثم ركبوا جميعا في القارب وانطلقوا به في عرض النيل، وما زالوا في شرب ولهو، وحسن قابع في ركن من القارب وقد مل انتظار الموت، وتمنى أن يعجلوا بقذفه في النيل. إلى أن سمع كبيرهم ينهض فجأة ويصدر أمره بالاتجاه نحو الشاطئ الشرقي، فلم يخالجه شك في أن لحظة إغراقه قد حانت، ونطق بالشهادتين، ثم تجلد وتطلع إليهم؛ ليريهم أنه لا يهاب لقاء الموت ويؤثره على الحياة في عهد حكمهم الفاسد الظلوم. وشد ما كانت دهشته إذ رآهم منصرفين عنه إلى ما هم فيه من سكر وضحك وغناء، ثم ازدادت دهشته حين وصل القارب إلى الشاطئ فأنزلوه أمامهم منه، ثم ابتسم كبيرهم وقال: «لقد كتب لك عمر جديد، وهذا هو جبل المقطم أمامك، فعليك أن تدور حوله حتى تبلغ الطريق المؤدي إلى سوريا فامض فيه قدما دون أن تلوي على شيء، وإياك أن يشعر بفرارك أحد!»
ولم يصدق حسن سمعه، بل لم يصدق عينيه حين سارع كبير الجنود على أثر ذلك بفك قيوده وأغلاله وإعطائه صرة من المال يستعين بها في رحلته، وبقي واقفا في ذهول حتى دفعه الرجل بقوة في الطريق الجبلي الممتد أمامه ، فاندفع يعدو فيه وصوت الرجل يلاحقه وهو يحثه على زيادة العدو، حتى انقطع الصوت بعد قليل، فخفف من عدوه والتفت فلم يجد أحدا غيره في تلك المنطقة الجبلية المقفرة، وقد زاد في وحشتها ما سادها من ظلام المساء، وما اعتمل في صدره من شتى الهواجس والانفعالات.
Halaman tidak diketahui