كان أهل القاهرة قد التجئوا جميعا إلى منازلهم وأحكموا إغلاق أبوابها، بعد أن أغلقوا متاجرهم وتركوا أعمالهم، ريثما يتم سفر الجنود.
ولم يعجب السيد عبد الرحمن لخلو الطريق من المارة حتى الحوذية والمكاريين، لعلمه بخشية الناس اعتداء الجنود، وما تعودوه هؤلاء من اغتصاب كل دابة يصادفونها في طريقهم بدعوى حاجتهم إليها في الجهاد. فمضى في طريقه إلى القلعة وقلبه يخفق بشدة مخافة أن يلقاه بعض الجنود ويسلبونه ثيابه وما معه من المال. وما زال سائرا وهذا حاله حتى بلغ القلعة، وهم بدخولها من «باب العزب» فإذا به يلمح شيخا يدخل منه راكبا جوادا، وتأمله جيدا فإذا هو السيد المحروقي نفسه، فعجب لتأخره عن الوصول إلى القلعة حتى تلك الساعة، ولم يدرك سر ركوبه جوادا بدلا من البغلة التي رآه ممتطيا إياها، ولاسيما أن المماليك لم يكونوا يسمحون لغيرهم بركوب الجياد.
فأسرع في مشيته حتى اقترب منه وناداه فالتفت إليه وعرفه، فأوقف جواده حتى لحق به وسأله عما أتى به، فقص عليه ما حدث منذ فارقه. وأخذ ينظر إلى الجواد كأنه يستفهم عما دعا السيد إلى ركوبه بدلا من بغلته، فأدرك هذا غرضه وقال له: «إن بعض الجنود الأجانب - قبحهم الله - اعترضوا طريقي، وأبوا إلا أخذ البغلة بما عليها، ولم أنج منهم إلا بمعجزة، وبعد أن أبلغ الخادم الأمر إلى واحد من المماليك اتفق مروره في ذلك الوقت ... وأخبره بذهابي إلى القلعة لمقابلة علي بك بدعوة منه، فجاء المملوك وانتهر من وجدهم من الجنود وهددهم بالقتل ففروا هاربين، وكان زملاؤهم قد فروا قبلهم بالبغلة وما عليها، فجاءني المملوك بهذا الجواد وهو من جياد علي بك فركبته وواصلت المضي في طريقي حتى جئت كما ترى.»
فهنأه السيد عبد الرحمن بالسلامة، واعتذر إليه مما لحق به من الإهانة بسبب خروجه في مثل ذلك اليوم لإنجاز المهمة الخاصة به، فقال السيد المحروقي: «هكذا قدر الله. ولا راد لما قدره، ولا ذنب لك في الأمر. فقد كان علي أن أحضر إلى هنا تلبية لدعوة علي بك. وعلى كل حال نحمد الله على اللطف فيما جرت به المقادير. ولعل الخير في هذا التأخير.»
ثم أشار إليه أن يتبعه عسى أن يستطيع الدخول معه إلى مجلس علي بك، ويعرض عليه بنفسه مظلمته، وحينئذ يتدخل هو في الأمر، ويلتمس إنصافه. فوافق على ذلك شاكرا.
ولما وصلا إلى الساحة الداخلية في القلعة، وجداها قد امتلأت بجماعات من الجند، من مختلف الأجناس والأزياء، وقد علت ضوضاؤهم وهم يتأهبون للخروج. فأخذ السيد عبد الرحمن يتفقدهم لعله يرى ولده بينهم. ولكنه لم يستطع الاهتداء إليه بين جموعهم المختلطة بين مماليك وأتراك ومغاربة ومصريين وأروام وشوام وغيرهم، ولكل جماعة منهم علم خاص، وقائد من جنسهم، وأبرزهم المغاربة بطراطيرهم المصنوعة من جلد السمور، وعباءاتهم المزركشة بالذهب، والإنكشارية بطراطيرهم المدلاة أطرافها على ظهورهم. وفي مقدمتها فوق الجبهة ريشة تنتهي عند أعلاها بشعبتين، وقد تمنطق كل منهم فوق قبائه (قفطانه) بحزام عريض. والمماليك في زيهم المعروف، المؤلف من القباء المزركش، والمنطقة العريضة يتدلى السيف من جانبها الأيمن، ويبدو الخنجر تحتها من أمام، والعمامة الأنيقة ملفوفة على قاووق طويل. •••
ما كاد حراس القصر الجدد يلمحون السيد المحروقي قادما على جواده حتى خفوا إلى استقباله بتحيات الإجلال والتعظيم، لعلمهم بمكانته الممتازة عند مولاهم علي بك، فضلا عما عرفوا من علمه وفضله وتقواه. وبعد أن عاونه بعضهم على الترجل، ساروا بين يديه حتى اجتاز الباب وخلفه السيد عبد الرحمن وقد حسبوه تابعا للسيد المحروقي فتركوه يدخل معه.
ولما وصلا إلى باب القاعة الكبرى حيث مجلس علي بك، أدرك السيد عبد الرحمن أنها القاعة التي قابل فيها الباشا في الصباح، فقال في نفسه: «سبحان محول الأحوال.» ثم رأى الستر المسدل على الباب قد رفعه أحد الحاجبين الواقفين هناك، فدخل السيد المحروقي لا يلوي على شيء وعاد الحاجب فسدل الستر كما كان. فهاب الدخول خيفة أن يمنعه الحاجب، وخشي في الوقت نفسه أن يطيل الوقوف بالباب فيدعو هذا إلى الريبة في أمره وربما أوذي بسبب ذلك، فكر راجعا حتى بلغ الباب الأول، ووقف مع خادم السيد المحروقي المنتظر بالجواد هناك. وتشاغل بالحديث معه.
وعلم الخادم من حديثه أنه راغب في حضور مجلس علي بك، وأن السيد المحروقي نفسه هو الذي أشار عليه بذلك، فقال له: «إن هذا أمر ما أسهله يا سيدي، وما عليك إلا أن ترضي الحاجبين ببضعة أرباع من النقود، فتجد الستر مرفوعا وتدخل بكل اطمئنان.»
وسرعان ما وافق السيد عبد الرحمن على هذه الفكرة فعاد إلى باب القاعة. حيث حيا الحاجبين ووضع في يد كل منهما بعض المال، فردا تحيته بأحسن منها، ورفع أحدهما الستر فدخل القاعة بسلام، ثم تمهل في سيره وهو يجيل عينيه في المجلس. فإذا به يرى علي بك جالسا على متكأ مرتفع في صدر القاعة، مرتديا الجبة والعمامة ذات القاووق. وقد تمنطق بحزام عريض برز منه على الصدر خنجر مقبضه من الذهب المحلى بالجواهر. فهاب منظره لطول شاربيه ولحيته، واتساع صدره وجبهته، ولما يبدو في نظراته من دلائل الجرأة والذكاء وغلظة القلب. وكاد يهم بالرجوع لولا أن رآه مشغولا بالحديث مع الجالس عن يمينه وفي إحدى يديه سبحة طويلة يقلب حباتها بأصابعه. وفي يده الأخرى مذبة من شعر الخيل.
Halaman tidak diketahui