وأخذ السيد عبد الرحمن ينادي البواب باسمه، فلم يستطع هذا جوابا، واستمر في شخيره وهو يئن أنينا خافتا متقطعا. فأدرك أنه في غيبوبة الموت، واشتد خفقان قلبه وارتعدت فرائصه لهول ذلك المنظر المروع. وحدثته نفسه بأن يبلغ الأمر إلى رجال الشرطة في مقرهم الخاص بالمنطقة. ثم خشي ما قد يجره عليه هذا من الظلم والإهانة. كما رأى أن بقاءه بجانب البواب الصريع قد يوقعه في تهمة قتله وهو بريء منها. فغادر المكان مسرعا ودخل الحارة ملتمسا الطريق إلى منزله فيها. وما كاد يخطو بضع خطوات حتى سمع وقع أقدام كثيرة خلفه، فالتفت فإذا برجلين كأنهما ماردان، يرتديان ملابس قصيرة وفي يد كل منهما عصا غليظة طويلة، وصاح به أحدهما قائلا : «قف مكانك يا مجرم، أتظن أن التخلص من جريمة القتل سهل إلى هذا الحد؟!»
فوقف السيد عبد الرحمن، وقد امتلأ قلبه رعبا، ولم تعد ساقاه المتخاذلتان المرتعدتان تقويان على حمله، ولاسيما بعد أن رأى أحد الرجلين رفع عصاه وهم بأن يهوي بها على رأسه. على أنه تحامل على نفسه متجلدا، وقال للرجلين في صوت متهدج: «لست والله مجرما، ولا أنا ممن يستطيعون قتل هرة.»
وكان جوابهما أن انقض عليه أحدهما وقبض على عنقه بيد من حديد حتى كاد يزهق روحه خنقا، بينما أطفأ الآخر المصباح، وراح يجرد التاجر من كل ما يحمله من نقود وثياب وأوراق وحلي وغيرها. ثم ألقياه بقوة على الأرض وتركاه ذاهلا يئن من فرط الألم ولاذا بالفرار، بعد أن هدداه بالقضاء على حياته إن هو فتح فمه بكلمة واحدة!
ولم يسعه إلا الامتثال، فبقي صامتا ساكنا حتى ابتعدا، ثم نهض ومشى إلى منزله بما بقي عليه من الملابس الداخلية، وهو عاري الرأس حافي القدمين. فلما اقترب من المنزل سمع فيه صراخا وعويلا فازداد اضطرابه. وطرق الباب طرقا شديدا، فأطل بعض الخدم من نافذة تشرف على الباب ولم يستطيعوا معرفته لتغير هيئته وملابسه ولضعف ضوء المصباح المعلق بالباب، وحسبوه لصا أو محتالا فانهالوا عليه بالشتائم والحجارة. لكنه صاح بهم مهددا متوعدا، وأخذ يدعوهم بأسمائهم حتى عرفوه ففتحوا له الباب واستقبلوه معتذرين باكين. ورأى الجواري محلولات الشعر يلطمن وجوههن نادبات معولات. وعلم منهن أن زوجته وحدها في غرفتها، وأنها تكاد تكون غائبة الوعي كأنما أصيبت بالذهول أو الجنون؛ وذلك لأن عساكر المماليك جاءوا إلى المنزل منذ قليل وهم سكارى، وقبضوا على ولدهما حسن وساقوه إلى الديوان تمهيدا لتجنيده وإرساله إلى الحرب!
الفصل الثاني
في قلعة القاهرة
أدرك السيد عبد الرحمن أن الجابي هو الذي اقتحم منزله وأخذ ولده، رغم الأكياس والسلع التي أخذها منه في المتجر هو ومن معه، فطفرت الدموع من عينيه حنقا وحزنا. ومضى إلى زوجته في غرفتها فوجدها قد حلت شعرها وشقت ثيابها وتورم خداها واحمرت عيناها من شدة اللطم والبكاء. وما وقع نظرها عليه حتى صاحت قائلة: «لقد أخذوه ... أخذوا حسنا إلى الحرب والقتل.» واستأنفت اللطم والعويل.
ولم يستطع مغالبة تأثره الشديد بهذا المنظر، فأخذ هو الآخر يلطم وجهه وأطلق لدموعه العنان. وشاركهما في ذلك كل من في المنزل من الخدم والجواري.
وأخيرا، اقتربت منه زوجته وهي على تلك الحال وقالت له: «ألا تخرج للبحث عن حسن والوقوف على ما تم في أمره، عسى أن توفق إلى إنقاذه بأي ثمن؟»
فقال: «لو قبلوا أن أفتديه بكل ما أملك، وفوقه حياتي نفسها ما أحجمت عن افتدائه. وقد بذلت للجابي كل ما طلب وزيادة، على أمل أنه أعفاه من التجنيد رحمة بنا. لكنه - لعنه الله - أبى إلا أن يفجعنا في مالنا وولدنا.»
Halaman tidak diketahui