ووصل التأثر إلى حد أن مينيلاوس الكاهن الأول ليهوه في أورشليم، تبرع بالأواني الذهبية المقدسة لإقامة ألعاب مقدسة للإله هرقل، وفرض أنطيوخس عبادة زيوس اليوناني، واستبدل مذبح يهوه بتمثال لزيوس في 168ق.م، ومنع تقريب القرابين ليهوه وعاقب الملتزمين بالسبت والأعياد والختان. وتعرض المتقون للتعذيب والموت، فهرب اليهود الغاضبون إلى الصحراء وتجمعوا في فصائل بقيادة يهودا المكابي الذي رفع السلاح للنضال، بينما كان هناك فريق آخر يحمل اسم الحاشيدي أي الورعين يرون أن الثورة المسلحة غير مجدية لأن يهوه سيأتي بذاته لتحرير شعبه، «وكانت تلك بداية فكرة مجيء الإله من السماء، التي تجلت في العقيدة المسيحية من بعد». المهم أن المكابي استقل بيهوذا ولو فترة عن الاحتلال اليوناني.
وفي هذا الزمن يلمح دانيال في المقطع (11: 40-43) ملك الشمال الوقح المستكبر - على حد وصفه له - أنطيوخس الرابع يتجه جنوبا، فيتنبأ بأنه سوف ينهب كنوز البلاد ويحتل مصر، ولكن التاريخ كان له رأي آخر إذ لم يحقق لدانيال نبوءته.
كما تنبأ دانيال لملك الشمال هذا أنه سيموت بين البحور وبين جبل بهاء القدس أي جبل صهيون (دانيال، 11: 45)، ومرة أخرى يرى التاريخ رأيا آخر إذ يموت أنطيوخس الرابع في طريق عودته من إيران عام 164ق.م.
إذن فكتاب دانيال لم يكتب في القرن السادس في الأسر البابلي، إنما في فلسطين في القرن الثاني قبل الميلاد، «وبالتحديد ليس قبل عام 168ق.م»؛ لأن ذلك هو العام الذي نصب فيه تمثال زيوس في معبد أورشليم. لكن المرجح أن دانيال انتهى من كتابته قبل عام 164ق.م والسبب أن المؤلف أيا كان اسمه، دانيال أو غيره، لم يكن يعلم بموت أنطيوخس الرابع بعيدا عن فلسطين فطاشت نبوءته، ومما يؤكد ذلك أن كتاب دانيال لم ترد بشأنه أية إشارات بالكتاب المقدس أو غيره خلال القرون الأربعة السابقة على القرن الثاني قبل الميلاد، بل كان مجهولا لمحرري تلك الفترة تماما.
وتبريرا لذلك احتاط المؤلف الأريب فقال إن دانيال بعد تدوين كتابه أمره يهوه أن يخفيه إلى زمن تم تحديده بأنه «وقت النهاية»، وأن زمن ظهور هذا الكتاب - أي القرن الثاني قبل الميلاد - سيكون بشارة ودليلا على أن نهاية زمن الآلام قد اقتربت.
ويكشف التحليل اللغوي لكتاب دانيال أنه قد كتب باللغتين العبرية والآرامية من الإصحاح 2: 4 وحتى الإصحاح 7، وهي سمة القرن الثاني قبل الميلاد وليس قبل ذلك. كذلك هناك أسماء يونانية واضحة لجميع الآلات الموسيقية مثل بيسانطرين وكاتروس وسيمفونيا، إضافة إلى أنه قد أورد طقوسا وأفكارا يهودية هي فقط من سمات اليهودية المتأخرة، كالصلاة في ساعات محددة ثلاث مرات في اليوم، والتوجه إلى قبلة هي أورشليم (6: 10) وطقوس تناول الطعام (1: 8).
إن كتاب دانيال وفق هذا التحليل يكون قد كتب بالضبط ما بين عامي 168 و164ق.م إبان الاضطهاد الديني الذي أمر به أنطيوخس أبيفان، ومن هنا قسم دانيال المؤمنين إلى صنفين أو إلى فريقين: المتقين الصامدين ضد الاضطهاد، و«الفاهمون من الشعب» (11: 33) وهم الأرقى، ويبشر الفاهمين أنه حين تأتي القيامة للأموات فإن «الفاهمين يضيئون كضياء الجلد كالكواكب إلى أبد الدهور» (دانيال، 12: 3).
ويبدو أن هؤلاء الفاهمين في نظره كانوا حزب الحاشيدي، ويدعم ذلك أن مؤلف كتاب دانيال انتظر تدخل يهوه ولم يشارك في ثورة المكابيين، ولم يبق وقت كثير لصمود المضطهدين المحافظين على دينهم رغم التعذيب؛ فمن لحظة إزالة المذبح وإقامة التمثال الرجس لزيوس مكانه لم يبق سوى وقت قصير:
من وقت إزالة المحرقة الدائمة وإقامة رجس المخرب ألف ومائتان وتسعون يوما. طوبى لمن ينتظر ويبلغ إلى الألف والثلاثمائة والخمسة والثلاثين يوما. (دانيال، 12: 11-12)
وليس مفهوما وضع ميعادين مختلفين لمجيء الخلاص، لكن يبدو أنها إضافة تمديدية للزمن من كاتب آخر بعد انتهاء الموعد الذي حدده دانيال ولم يأت يوم الخلاص. «ولأول مرة يظهر اسم الملاك حامل الوحي؛ فهو جبريل» الذي جاء يقول لدانيال إنه من لحظة الأمر بتجديد أورشليم وبنائها إلى ظهور مسيح يهوه الآتي سبعة أسابيع واثنان وستون أسبوعا (دانيال، 9)، وهنا لا يفوت اللاهوت المسيحي بعد ذلك هذه الفرصة، ويقترح أن دانيال كان يتنبأ بذلك بمقدم يسوع بأزمنة رمزية يجب تأويل فهمها. بينما كان دانيال يتابع شارحا أن خطأ إرميا في تحديد سنوات السبي بسبعين سنة بدلا من 49 سنة ليس خطأ، لأنه حسب سبعين سنة حتى مجيء المخلص ملك إسرائيل ونسل داود الذي سيمسح بالزيت المقدس مسيحا ملكا.
Halaman tidak diketahui