لكن عند العودة لم تعد سوى قلة من اليهوذيين الذين ضاقت بهم سبل الرزق في بابل، بعد أن شكوا في وعود يهوه «لأن أقواله كذبت أكثر من مرة»؛ فهو أكثر من مرة أكد أنه سيفني البابليين وبابل، لكن ما حدث كان بالعكس تماما، بل ازدهرت بابل أكثر، وأضيفت إليها معابد جديدة، وإلى تجاراتها زيادات هائلة، وتحولت إلى كبرى عواصم الدولة الفارسية نفسها.
وعاد البعض، ودفع البعض، وقام العائدون يبنون وينتظرون كل ليلة إطلالة المجد اليهوي بالخير على شعبه المخلص، لكن لتجتاح الأرض موجة جفاف نادرة المثال، وتصاب المزروعات بالدمار، حتى الأشجار المثمرة ضربتها الآفات (حجي، 1: 5-11؛ و15: 19)، ثم جاء الجراد يكتسح في هجوم متكرر، مع مشاكل أخرى نتجت عن كون القائمين في يهوذا من فلاحين لم يتم سبيهم، كانوا قد استولوا على أراضي المسبيين، ويرفضوا الآن إعادتها مما خلق مشاكل كبرى بينهم وبين الكهنة.
وامتد تشييد معبد يهوه المتواضع جدا حوالي عشرين سنة كاملة، كانت فيها أورشليم تعاني ويلات الجوع، وعاش الناس في حطام أطلال لم تبن منذ الغزو البابلي، ليبزغ في التاريخ نجم نبي مجهول جديد، لم يجد أمامه سوى سفر إشعيا فدس فيه لفائفه الجديدة، واصطلح على تسميته إشعيا الثالث. وكان حديثه يقع زمن بناء الهيكل والدعوة إلى بناء سور أورشليم (إشعيا، 60: 10-13)، وسط النزاع بين الأتقياء وبين الكفار. «والكفار عند إشعيا الثالث ليسوا الشعوب الوثنية ولكن هم اليهوذيون أنفسهم الذين قد أصبحوا نصف وثنيين»، يقدمون القرابين ليهوه في أورشليم، ثم يذهبون ويرتبون موائد الإلهين جاد ومنسي (إشعيا، 65: 11) ويأكلون الخنزير المحرم (66: 17). «وظهر مفهوم الكافر في أفق التاريخ» ليعيد إلى يهوه غضبه ويقول إن يهوه قبل أن يعيد بناء أورشليم «سيبيد أولا الكافرين، وبعدها سيكون لإسرائيل أمجاد عظمى وتبنى كأزهى البلاد» (إشعيا، 61: 4). إن الأزمة عندما استحكمت ذهب الحلم الغاضب إلى تكفير بني الملة، «وهو ما يردد صداه اليوم في بلاد المسلمين». وبينما يعود عزرا عما كان قد أسسه إشعيا الثاني من عالمية يهوه ودعوته للتبشير وفتح دينه للأخرين، يعود عزرا إلى عنصرية الشعب المختار بالدم والعنصر وحده؛ لأنهم عندما عادوا من الأسر فوجئوا بمن بقي منهم هناك وقد تزوجوا من نساء الشعوب المختلفة وعبدوا آلهتها، وهو ما يسجله كتاب عزرا في تقرير يقول:
لم ينفصل شعب إسرائيل والكهنة واللاويين من شعوب الأرض من رجاساتهم، من الكنعانيين والحيثيين والفرزيين واليبوسيين والعمونيين والموآبيين والمصريين والأموريين؛ لأنهم اتخذوا من بناتهم لأنفسهم ولبنيهم، واختلط الزرع المقدس بشعوب الأرض، «وكانت يد الرؤساء والولاة في هذه الخيانة أولا».
وهنا نلمح في زمن إشعيا الثالث ومواصفاته ما يمكن له أن يحدد زمنه وقت أو أيام كان كهنوت أورشليم لم يبلغ سطوته كاملة، ووقت كان يلح فقط على فروض العبادة، ونستمع إليه يعضد إشعيا الثاني ويؤكد فتح باب اليهودية للشعوب الأخرى، حتى يجد حلا لمشكلة الزواج الكثيف من الأجانب، وحتى يجعل أبناء تلك الزيجات يهودا، وهنا يقول يهوه لأبناء الشعوب الأخرى:
فلا يتكلم ابن الغريب الذي يقترن بيهوه ليخدموه، وليحيوا اسم يهوه، ليكونوا له عبيدا، كل الذين يحفظون السبت لئلا ينجسوه ويتمسكون بعهدي، آتي بهم إلى جبل قدسي وأفرحهم في بيت صلاتي، وتكون ذبائحهم ومحروقاتهم مقبولة على مذبحي؛ لأن بيتي بيت الصلاة يدعى لكل الشعوب. (إشعيا، 56: 3-28)
وأنبياء الشعوب الأخرى المؤمنون بيهوه سيعيشون في مملكة إسرائيل المزدهرة (إشعيا، 61: 5)، لكن خدمة معبد يهوه تظل من اختصاص اليهوذيين فقط. ويدفع إشعيا الثالث بيهوه نحو تطور أرقى حين يؤكد يهوه - مع الصعوبة القائمة في بناء المعبد - أنه ليس بحاجة ماسة لمعبد، والسبب:
هكذا قال يهوه: السموات كرسي، والأرض موطئ قدمي. أين البيت الذي تبنون لي؟ (إشعيا، 66: 1) «وفي الإسلام أصبحت الأرض كلها معبدا طهورا.» وهكذا تدل مداخلات إشعيا الثالث على أنه لم يكن كاهنا منتفعا من المعبد؛ لأن هناك آخر كان ينتفع لأنه كان كاهنا لذلك كان يقول كلاما آخر، ويؤكد على وجوب استكمال المعبد لأن يهوه يحتاج إلى السكن في الأرض:
هكذا قال يهوه رب الجنود قائلا: هذا الشعب قال إن الوقت لم يبلغ وقت بناء البيت! هل الوقت لكم أن تسكنوا في بيوتكم المغشاة، وهذا البيت خراب؟ (حجي، 1: 42)
ووجد حجي في تباطؤ شعبه عن البناء حجة تبرر ما نزل بهم من كوارث جديدة؛ فيهوه يقول لحجي:
Halaman tidak diketahui